النادي السينمائي يفتتح نشاطاته بفيلم “مطر أيلول”
كان جذع الشجرة المتشبث بالأرض الذي لا يرمز إلى موت الكثير من الأحلام والصور والذكريات والهواجس داخل الإنسان، وإنما إلى إماتة كل هذه الوجدانيات من قبل أشخاص يمثلون أقطاب الشر، هو الرمز في فيلم مطر أيلول سيناريو وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد الذي اتكأ على الرمزية في بنائه السردي السينمائي، وعلى التضاد والمقابلة والجرس الموسيقي واللجوء إلى الطبيعة ليأتي بروح تشبه القصيدة، ولم تكن الرمزية هي السمة الوحيدة بالفيلم الذي تميّز بازدواجية الرسائل المباشرة والخفية وبتداخل الخطوط السينمائية لتغدو أقرب إلى التورية في قراءة خلفية الأحداث، معتمداً بالدرجة الأولى على التماهي بين الحلم والواقع لينسحب الحلم ويأخذ دوره بالصورة البصرية لتفسير ما يتساءَل عنه المشاهد.
يعود زمن الفيلم الفعلي إلى أربعينيات القرن الماضي لينسحب المخرج بإسقاطاته الواقعية إلى عام 2010 زمن إطلاق الفيلم بإيحاءات استخدام الهاتف النقال (الجوال) ووجود السيارة الحمراء (المورننك) الحديثة والتي مثلت مفصلاً من مفاصل الفيلم وقد وظّفها المخرج لإيصال إحدى رسائله، حينما تغيّر المسار السينمائي للفيلم وانقلب رأساً على عقب بعد مرحلة هدوء نسبية عاشها أبطال الفيلم، التغيير المؤلم والمأساوي الذي أوقعه عبد الحميد بالفيلم أحزن المتلقي، لكن بارقة الأمل سرعان ما أتت مع المشهد الأخير الذي اختزل رسالته السينمائية بانتصار الخير على الشر حتى لو كان الثمن فادحاً، ومن أجواء الفيلم نستشف ونستنبط أموراً كثيرة يعيشها الشعب السوري هي التي جعلتنا نقاوم ونستمر وننتصر، وفي الوقت ذاته حمل الفيلم إشارات تنبيه إلى سلبيات تؤدي إلى مخاطر وهذه رسالة السينما الهادفة الشفافة.
الموسيقا ودائرة الخوف
بدأ الفيلم بتصوير دمشق بمسح أفقي للحظات الفجر الأولى ليحيي عبد الحميد ذكرى عازف البزق محمد عبد الكريم بمشهد ذهابه إلى إذاعة دمشق في تمام الساعة السادسة ليعزف شارة الصباح –أدى دوره الفنان مازن عباس- بحضور لقطة للمخرج عبد الحميد ليكون مخرجاً بالإذاعة أيضاً، وينتهي المشهد الذي ارتبط بزمن الفيلم الفعلي لتلتقي نغمات البزق مع نغمات آلات التخت الشرقي العود والقانون والآلة الإيقاعية المزهر والكمان الذي طوّع بالموسيقا الشرقية إشارة من المخرج إلى الحفاظ على حضارتنا وهويتنا وثقافتنا القابلة للتطور والانفتاح والتأثر من الآخر، لتمضي القصة مع بطل الفيلم الأب الأرمل النجم أيمن زيدان الذي لمسنا بدوره مستويات لجوانب مختلفة من الشخصية فجسد صورة الأب المثالي الحنون الصديق لأبنائه الستة، والمحب لبيته وأسرته وحارته وعمله البسيط بائع البطيخ على ناصية الشارع، وفي الوقت ذاته هو العاشق لفدوى التي أدت دورها بجمالية ورقة بالغة الفنانة سمر سامي، بدا هذا واضحاً في روحها الصافية بغنائها “افرح يا قلبي” وفي لقاءاتها العاطفية الخاطفة الحميمية مع الأب أيمن زيدان في البستان داخل سيارته، لكن دوره الأساسي الذي حمل رسالة الفيلم بدا في الصراع الدرامي على المستوى الشخصي بينه وبين طارق – الفنان قاسم ملحو- الذي ظهر مع مجموعته ليرمز إلى أحد الأشرار الذي يحاربون الحبّ والحياة الجميلة وقيمها، وفي الوقت ذاته بالصراع النفسي الداخلي الذي يشعر به الأب بالإحساس بالخوف من طارق وتخيله مع مجموعته في أوقات نومه ويقظته، لتتكرر الصورة بابتسامة طارق الساخرة والتي تخفي الكثير من الشر.
لقطة كلاسيكية
وفي المستوى المباشر للسرد السينمائي اختار المخرج أمكنة جميلة عبّر طرازها المعماري المتزامن مع زمن الفيلم من خلال حارة من حارات شارع بغداد، بدت فيها الأبنية متلاصقة والشرفات صغيرة وركزت كاميرته على جمالية العلاقات الاجتماعية وترابطها وانفتاحها باشتراك الأفراد بانتماءاتهم المختلفة مع أسرهم بقهوة الصباح، وبمتابعة مشهد الحب الصباحي بين وليد الذي ينظف سيارة حبيبته صاحبة السيارة الحمراء، ويلتقي هذا المشهد مع مشهد أخيه مازن –يامن الحجلي- الذي يقطع جرياً مسافات طويلة ليصل إلى نافذة حبيبته ويقدم لها الوردة.
رومانسيات عبد الحميد المهيمنة برقتها وجمالياتها على مشروعه السينمائي لم تخلُ من الفكاهة في المشهد العاطفي الأسبوعي الذي يرمز إلى العادات التقليدية الدمشقية في زيارة الخطيب خطيبته بحضور أهلها، فالعازفون الأربعة الأخوة الذين يشكلون فرقة تعزف في مطعم تقليدي –منزل عربي- أغنيات الزمن الجميل يرتبطون بأربع شقيقات، ويفرد مساحة عبد الحميد للزيارة الدافئة ليصوّر رومانسية الحب رغم حضور الأب -جمال قبش- والأم -رغداء هاشم.
رسائل الانتقام
المشهد الحاسم الذي لخّص رسالة الفيلم كان بوجود طارق في المطعم يطلب من صاحبه تغيير فرقة العازفين، لكن ردّ صاحب المطعم الحاسم كان الفاصل بقوله”أنا أحبهم وإذا أردت توجد فرقة ثانية في المطعم المجاور” إيحاءً قوياً بوجود أشخاص يقاومون الشر المتغلغل، ليأتي المشهد الأخير الذي يؤكد على الأمل وعلى انتصار الخير على الشر بلقاء فدوى والأب داخل السيارة في البستان الأخضر وعزف أبنائه، لتبقى رائحة مطر أيلول رائحة الحبّ والجمال.
ملده شويكاني