ثلاثـــــــةٌ وثــــــلاثٌ
د. نضال الصالح
وكانَ الحمزة يقلّبُ كتابَ الحياة بين يديه، فينهضُ موتى مِن موتهم، ويمضي أحياءُ إلى الموت. موتى لم يموتوا، وأحياءُ في عداد الأموات. وكان يقرأُ: “الإخوانُ ثلاثةٌ: فرْع بائنٌ مِن أصله، وأصلٌ مُتصل بفَرْعه، وفَرْعٌ ليسَ له أصْلٌ”، ثمّ ما يلبث أن يستعيد قول الإمام عليّ: “ثلاثةٌ لا يُعرَفون إلا في ثلاثٍ، لا يُعرَف الشجاعُ إلا في الحرب، ولا الحليمُ إلا عندَ الغضب، ولا الصديقُ إلا عندَ الحاجة”، فسؤال مُعاويةُ لخالد بنِ المُعَمَّر: كيف حُبُّك لعليّ؟ وقول خالد: “أُحِبّهُ لثلاثِ خِصال: على حِلمه إذا غَضِب، وعلى صِدقه إذا قال، وعلى وَفائه إذا وَعد”.
وفي صفحة أخرى: “وروي عن بعضهم أنه قال: ثلاثة في ظل عرش الله يوم لا ظِّل إلا ظله: رجلٌ لم يعب أخاه بعيبٍ فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه؛ فإنه لا يصلحه حتى يهجم على آخر، فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. ورجلٌ لم يقدِّم يداً ولا رِجْلاً حتى يعلم أفي طاعة الله هو أم في معصيته؟ ورجلٌ لم يلتمس من الناس إلا مثل ما يعطيهم من نفسه”. وفي الأغاني أنّ مسلم بن قتيبة قال: “لا تطلبنّ حاجتك إلى واحد من ثلاثة: لا تطلبها إلى الكذّاب، فإنه يقرّبها وهي بعيدة ويبعدها وهي قريبةٌ؛ ولا تطلبها إلى الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك وهو يضرّك؛ ولا تطلبها إلى رجل له عند قوم مأكلة، فإنه يجعل حاجتك وفاءً لحاجته”. وما إن يبلغ آخر الصفحة، حتى يستعيد ملامح أصدقاء يصدق فيهم قول القائل: “الصديقُ مَن إذا مشيتَ إليه فتراً مشى إليك ذراعاً، ومَن إذا بذلتَ له صدقَ الودّ بذلَ لكَ رِفْدَه، وإذا ما أدبرَ الزمان أقبلَ”، لكأنّهم ذلكَ الذي قال الشاعرُ عنه: “فليسَ الصَّديقُ صديقَ الرَّخاء، ولكن إِذا قَعَدَ الدهرُ قاما”، وملامح آخرين يصدقُ فيهم قول آخر: “ثلاثُ خصال مَن كُنّ فيه كُنّ عليه: المكرُ، والبغيُ، والنكثُ”.
ثلاثة، ثلاث.. يعدّدُ.. يستعيدُ، فتصفعه السنوات السبع التي مضت بغير فرع لا أصل له، وبغير ظلّ صديق، وبغير شاغل نفسه بغيره، وبغير كذّاب، وأحمق، وصاحب مأكلة، و.. ثمّ سرعان ما ينهمر دمع من مآقي روحه، ثمّ سرعان ما يصير الدمع مدينة، فالمدينة ظلالَ مدينة، وما مِن عاصم لقلبه المطعون بغير حزن سوى قبر أمّه الذي لم ير منذ سبع من السنين، أمّه التي كان يلوذ بحضنها كلّما دهمه حزن، فتمسح على رأسه وجبينه بكفيها المعروقتين اللتين أرهقتهما السنون، فتهدأ روحه، ثمّ يعاود النهوض إلى الحياة أيّوباً جديداً، بل أكثر صبراً على الصبر من أيّوب الأوّل، مهما يكن من أمر اختبار الحياة له بفرع لا أصل له، وبظلّ صديق، وبشاغل نفسه بغيره، و.. ومهما يكن من عدد أولئك وهم يتقنّعون بغير وجه.
ثلاثة، ثلاث.. وبينما الحمزة يعدّد، ويستعيد، صخبت السماء بغير برق، فغير رعد، ثمّ انهمر مطر غزير، مطر جوْدٌ، ثمّ لكأنّ السنوات السبع لم تكن، لم يكن ذلك الجدريّ الذي طفح على جسد المدينة، فأرهقه بالدم، والدمار، والشهداء، حتى لم يبق موضع شبر منه إلا وفيه ضربة بسيف كذوب، أو طعنة برمح غادر، أو رمية بسهم خؤون.