ثقافةصحيفة البعث

رواية “جنوب القلب”.. وثيقة مقاومة اسطورية

تأتي رواية “جنوب القلب” للكاتب محمد الحفري في ترتيب أعماله المنشورة الرقم 16 وهو الذي نال مؤخراً جائزة الدولة التشجيعية وقد نَشرَت روايتَه “جنوب القلب” مؤسسةُ سوريانا للإنتاج الإعلامي عام 2016، وهو في هذا العام يعيد طباعتها للمرة الثانية، وقد كانت محور نقاش مؤخراً في مركز ثقافي كفر سوسة بمشاركة الأديب سهيل الذيب والسيدة سوسن رجب، وهي رواية يسرد فيها الحفري أحداثاً جرت في الجنوب السوري ويروي فيها سيرة نزوح بطلها من مدينة درعا إلى دمشق.

الـ “أنا” والـ “هو”
يبيّن الحفري أن خصوصية هذه الرواية تنبع من التوثيق الحقيقي لما جرى في سورية وفي لغة سردها القريبة إلى النثر، وفي تدفق الكثير من الأحاسيس والمشاعر فيها، وفي لحظة الموت والخوف يستعيد الكاتب من ذاكرته الكثير من الأشياء الجميلة التي تمسُّ الروح، ويشير إلى أن الجديد في روايته يكمن في رشاقة مقاطعها والتكثيف القريب من القصة القصيرة، والأهم –برأيه- تناوب السرد بين الـ “أنا” والـ “هو” وهي مسألة مهمة برأيه في الرواية، إذ نوه إلى أنه من الصعب أن يفصل الكاتب أثره الشخصي عن أعماله، وأن نظرية موت المؤلف للفرنسي بارت كان يقصد بها أن نقرأ النص بحيادية وليس كما فهمها بعضهم.. من هنا يعترف محمد الحفري أنه يكتب بعضاً من سيرته الذاتية في كل أعماله، ليس على صعيد الرواية فقط بل على صعيد القصة أيضاً، وقد يمتد ذلك إلى المسرح، وأحياناً إلى نصوصه الشعرية لأن مسيرة الإنسان طويلة وممتدة، وأشار إلى أن الأدب هو الخط الرفيع بين الواقع والخيال، وما يكتبه يلخص وجهة نظره، خاصة وأن قانون الأدب سهل، حيث يتيح لكل كاتب أن يقدم وجهة نظره بالطريقة التي يريدها.
ولإيمانه بأن المرأة أسّ الحياة وأساسها فقد كانت حاضرة وبقوة في “جنوب القلب” وأعماله الأخرى، فأوضح الحفري أنه ينظر إلى المرأة نظرة التقديس وهي بالنسبة له لوحة فنية لا يرى فيها سوى الجمال، وقد يتغافل ويتجاهل بعضَ عيوبها ولا يتطرق إليها، وهي غالباً تلك البطلة التي تجلس في كواليس حياتنا، تحركها وتصنع منها حياة جديدة لها.
المقاومة الأسطورية
ويؤكد الأديب سهيل الذيب أن النقد إبداع آخر يتسم بالموضوعية، أما النص فهو ابن بيئته، فما ينطبق على النص الفرنسي مثلاً ليس بالضرورة أن ينطبق على نص آخر.. من هنا يجب على الناقد العربي –برأيه- أن ينهض من غفوته ويضع قواعده بعيداً عما فرضه الآخرون لإيجاد الذات الناقدة المبدعة التي تقدم رؤاها، ويبيّن أنه في النقد ليس مع تشريح النص للبحث عن أمراضه وعلله، وإنما هو مع أن يتلمس نبضه وتفاصيله كأمٍّ حنون بعيداً عن هراوة النقد ومطرقته، ونوه إلى أن “جنوب القلب” راوية سُطرت بأحرف من عشق، وهي ملحمة وطنية قلّ نظيرها من خلال تناول الكاتب فيها أحداثاً جرت في قريته التي هي صورة مصغرة عما حدث في كل بقعة من الثرى السوري، وقد أهدى الكاتب روايته إلى روح الشهيد بشار حبيب وإلى كل الشهداء الذين قاتلوا ببطولة وبسالة، وكذلك إلى تلك السمراء الممجدة في روحه، بطلته التي كانت صمام أمان البطل الذي هو الراوي، ويشير الذيب في كلامه إلى توطئة الكاتب في الراوية من أنه على الأديب أن يقول كلمته، فقد آن الأوان لمعرفة الحقيقة بعد هذه الحرب القذرة التي أُعلنت على الوطن بكل مكوناته، أما الرأي الذي يقول أن الرواية لا تنضج وتكتمل إلا بعد اكتمال الرؤية أو المشهد فيراه الذيب حجة واهية لا يتبناها إلا الذين يصرّون على الانتظار لما ستؤول إليه الأحداث، في حين أن الحفري كان مسرعاً في أن يسجل ويوثق ما يحدث.
ويبيّن الذيب أنه عاش في هذه الراوية لحظات ودقائق وساعات من أيام المقاومة الأسطورية التي سطرها الضابط الشاب بشار حبيب مع مجموعته ضد الجماعات الإرهابية بأسلوب السهل البسيط، لأن الحرب –برأيه- لا تحتاج إلى تنميق في العبارات وبهرجة في اللغة، ولذلك سرد الحفري روايته كما هي، مضيفاً إليها شيئاً من التزيين كي تمتلك فنية السرد بتراكيب واقعية تقود القارئ إلى الحبكة والخيال المتناغم مع الواقع الذي هو أهم ما في أي عمل أدبي، إضافة إلى أن الحفري نقل ما رأته عيناه بصدق وحِرَفية، متكئاً على معرفة دقيقة بالأمكنة التي يعشقها ولا سيما قريته التي دارت الأحداث فيها، ومن ثم في دمشق التي حطَّ رحاله فيها، فكانت “جنوب القلب” رواية كُتِبت بدم يغلي وتصور الكارثة التي ابتلينا بها وتوثقها بمهنية أقرب للموضوعية منها إلى الوجدانية.

شخصيات حقيقية
أما الأستاذة سوسن رجب فقد وصفت “جنوب القلب” بأنها رواية تشد القارئ منذ البداية، والكاتب فيها يسجل ويكتب ويوثق ما حدث وكأنه صحفي سعى لأن يمسك بزمام الأمور من خلال السرد المباشر، وتقديم شخصيات حقيقية بأسمائها الحقيقية وكأنه أراد بذلك تكريمها وتخليدها بأوسمة الكلام، متوقفة مطولاً عند الشخصيات النسائية في الرواية وهي كثيرة وإيجابية، وهذا –برأيها- يدل على إعلاء الكاتب لشأن المرأة التي مجَّدها في روايته، مؤكدة أن الحفري يرتقي بسلوكه الحياتي لمستوى النص على هذا الصعيد، وبيّنت أن شخصيات عليا وناديا وابتسام أكثر الشخصيات بلورة لدى الكاتب في روايته، وهنّ نساء امتزنَ بالقوة والصلابة والشموخ، فابتسام ترفض ترك أرضها وبيتها أثناء الحرب، أما عليا فتعتقد رجب أن الكاتب كان شحيحاً في تصويرها على الرغم من أنها شخصية ليست عابرة وهي المعجونة في رحم الأرض، لتؤكد أن وجود هذه الشخصيات يختصر رؤية الحفري للمرأة التي لا يراها إلا قوية وشامخة وشريكة ونداً حين اتخاذ القرار.

أمينة عباس