أعدّوا تابوتا للشعر
الشعر (فضيلة العرب) كما يقول الجاحظ, واللغة العربية هي لغة شعرية مثلما يقول العقاد، وإذا كان الشعر في ما مضى ديوانا للعرب, إلا أن هذا الديوان يعاني اليوم أكثر من مشكلة، إلى درجة دفعت بالنقاد للقول إنه قد تراجع أمام تقدم الرواية التي انتعشت. وباتت المنابر والجوائز ودور النشر تفضل التعامل مع فن السرد كفن رائج ومطلوب. الشعر الذي بقي لدهر طويل متربعا على عرش الأجناس الأدبية لم يصنع انعطافات حادة وقوية طيلة فترة تمتد عشرات السنين، ولا يمكن الآن أن نسمّي شعراء أفذاذ تمكنوا من تحطيم أصنام الرواد، بل إن هذا الفن يعاني الكثير من التكرار وكتابة النص نفسه من قبل كتاب كثيرين، فقد كثر الشعراء لكن للأسف قلّ الشعر بالمقابل!. بالرغم من هذا الكم الكبير من الإصدارات الشعرية الجديدة، التي هي ضرب من ضروب المغامرة, إذ لم يعد للشعر قراءه كما كان في السنوات الماضية, ولم يعد له تلك السطوة وذاك الحضور البهي. تراجع الشعر لعدة أسباب, منها الغياب النقدي الجاد, فما يكتب عن الشعر الآن هو في معظمه عرض لكتاب ليس أكثر، إضافة للفهم المغلوط من البعض للشعر بكل أبعاده وقيمه ورسالته وجوهره وجمالياته. كثر ظنوا انه من الممكن وببساطة أن يصبحوا بين ليلة وضحاها شعراء, هذا يبدو أكثر تجليا في تجارب شبابية, في القليل منها نجد المهم واللافت. إضافة لإحجام دور النشر عن نشر المجموعات الشعرية, كذلك ساهم انكماش النقد الشعري الجاد وانحساره, في سطوع النقد الروائي, الذي هو أسهل بكثير من النقد الشعري. لقد توقف النقد الشعري المدروس والمتقن عند تجارب شهيرة مثل محمود درويش والماغوط وقباني والسياب وحاوي والملائكة وما تلا ذلك من قامات شعرية, كأنما الشعر مات مع موت تلك الأسماء, حتى قال البعض أعدوا تابوتا للشعر، وارموا على نعشه التراب، لأننا ربما لن نسمع بعد اليوم بقامات تصنع الانعطافات الهائلة وتكتب الدهشة مثلما فعل الرواد!. نوبل التي زارتنا – نحن العرب – لمرة واحدة وربما تكون الزيارة الأخيرة, ذهبت اتجاه روائي وقاص مهم هو نجيب محفوظ, وان كان الأمر لا يخلو من غزل سياسي قام به المحفوظ من مغازلة كامب ديفيد, إلى موافقته على التطبيع، لكن كان من المنطقي أن تذهب إلى شاعر عربي على اعتبار الشعر هو ديوان العرب وهو سجل فخرهم وتاريخهم وملعب إبداعهم الأهم!. وكان قد رشح كثير من الشعراء العرب لهذه الجائزة, مثل الشاعر محمود درويش, وأدونيس, لكنهم لم يحصلوا عليها. عوامل كثيرة ساهمت بعودة الرواية إلى الصدارة وتحولت إلى ديوان للعرب, لعّل أهمها اليأس من جدوى الشعر, كذلك استسلام شبه واضح للشعر, أمام تقدم النص الروائي, الذي تذهب إليه دور النشر, وساهم في ذلك ذهاب أسماء شعرية معروفة من الشعر إلى الرواية مثل غادة السمان وسليم بركات وعادل محمود والشاعر أسعد الجبوري الذي كتب أكثر من رواية منها: (ديسكو لاند, واغتيال نوبل, والحمى المسلحة, مرورا بتحفته: ثعابين الأرشيف).
بعض الرؤساء العرب حين فكروا أن يتركوا أثرا أدبيا لم يتجهوا نحو الشعر, بل ذهبوا نحو القصة والرواية, بغض النظر إن كانوا هم من كتبوها, أو كلفوا أحدا ما ليكتب لهم, فالرئيس الليبي معمر القذافي, ترك مجموعة قصصية بعنوان (القرية القرية الأرض الأرض), كذلك فعل الرئيس العراقي صدام حسين في روايته: (زبيبة والملك). أولئك الرؤساء لم يختاروا الشعر!. وليس الشعر وحده من كان ضحية للرواية!. إنما شتى الانكسارات التي باتت تحدث في أزمة تطال المسرح, وانحسار القصة القصيرة كجنس أدبي آيل للسقوط, وبحث السينما عن عمل روائي يمكن أن يتحول إلى سيناريو يعمل “خبطة” وليس عن قصيدة لا يفهمها أحد ربما!.
أحمد عساف