ثقافةصحيفة البعث

حديث المطر

 

 

على الشرفة في ذلك البيت الجبلي العالي لم يكن الليل عادياً.. غابة الأشجار الكثيفة التي تحيط بالبيت، تجعلك تختلس النظر إليها بين لحظة وأخرى لتتأمل علوها الشاهق الذي يكاد يلامس الغيوم بكبرياء، في الوقت الذي تستسلم فيه بخشوع لنور القمر المتربع في السماء، في هذه اللحظة، لا تسمع سوى صرير جنادب فجأة، وتلاطم الأمواج بالصخور فجأة أخرى، تنظر إلى الأفق المظلم لتفاجأ بأنوار باهتة تكاد تطفأ، يعود النظر أدراجه إلى الأرض فيلحظ أنوار البيوت على تلك الجبال القابعة بعيداً عن البحر، أضواء مبعثرة أنارت تلك الجبال، فخففت من سوادها ليلاً وأضفت جمالاً ساحراً وصنعت أشكالاً لكل حرف من حروف اللغة، ولكن الناظر إليها يشعر بأن نجوم السماء قد هبطت عليها، أو أن السماء قد اتصلت بتلك الجبال.
تهب نسمة صيف باردة تلامس الوجه، تعود إلى الذاكرة الحياة الأولى لهذه الأماكن، حيث البيوت دون نوافذ، لذا كان النوم في الخيام المصنوعة من أعواد الريحان العبقة ذات السقوف التنكية، حيث يطيب النوم ويصبح ألذ حين ترقص قطرات المطر عليها في أواخر أيلول، فتصدر قطرات مبعثرة الأوزان.. حينها تمتلئ الساحات بالصراخ ويعود شبح الابتسامات على الوجوه المعروقة السمراء والتي تنظر بلهفة هطول مثل هذه الأمطار. تضع الجدة القدر الكبير على النار فلا تمر إلا دقائق حتى يبدأ البخار بالصعود، يقرقر القدر وبقبقات مياه الأمطار أمام البيت تبدو وكأنها قدر هائل يغلي ولا بد أن يفور، وفي الوادي العميق يتردد صدى هدير الرعد الذي يضفي صلابة وقوة خلابة للطبيعة، ومن بعيد تبدو السحب الداكنة الزرقة، وقد خرجت من الأفق الغربي ساحرة غريبة مخيفة ذات أشكال أسطورية، درجات من الرماد مبهرة غامضة محببة، قريبة من القلب لأنها من لون حياتنا وهذا سر المحبة لها، منظر رائع يثير الدهشة والرغبة في النظر إليه، منظر حبال المطر المتساقطة من سقف السماء فوق البيوت، في هذه اللحظة فقط يشعر الإنسان بأن اللسان هو الجندي الأكسل والأبطأ والأشد جبناً في جيوش العواطف التي تتقدم لتغزوه، فيما هو يستسلم لها بكل الرضا والطاعة، لتغمره بفيض من الأحاسيس التي تستولي عليه وتتدفق لتعبر عن نفسها في دقات القلب، في كل شيء فيه يشعر للحظة بأن حصان الكلام يفلت منه فيدعه غير آبه له، لأنه بالتأكيد لن يصيب وهو يتخبط في أنهار وبحور وفيضانات المشاعر التي تعصف به، ثم إن الرغبة بالكلام تتلاشى وهو ممتلئ بأحاسيس ومشاعر لم يعهدها! ترى هل هذا هو الحب؟ ربما هو الحب والعشق والجنون.. نعم.. هو الحب للطبيعة وعشق لكل مافيها، والجنون، أجل هو الجنون العظيم، هو الحب للمطر والبحر والريح، يتمنى المرء لو يستطيع تطويع القوافي كي تأتي جميلة كإيقاع حبات المطر وزخرفات الرعود وهدير النهر القريب.. هو الجنون الجميل الذي يتسلل في مسامات الجلد.. هو الجنون المرتعش الذي يمسك بشرايين القلب.. هو مطر الحب الذي يغسل الوجوه ويغرقها.. هو السحب الراكضة نحوه، تحمل في طياتها صوراً محببة، هو الجنون أن يذوب مع قطرات المطر المتساقطة من شجر السرو.
تغريد الشيني