المقاومة مدخل لعالم متعدد الأقطاب
لم يَطلْ الزمن الذي عمل الغرب الأطلسي وذيوله الصهيونية والرجعية العربية في المنطقة على استغلاله أبشع استغلال لتحقيق أحلامهم المرتبطة بالقطبية الأحادية وسياسة الهيمنة والتفرّد وغياب التوازن الدولي والثنائية القطبية.
ولم يستغرق هذا الزمن أكثر من ثلاثة عقود بين منتصف ثمانينيات القرن الماضي ومنتصف العقد الثاني من هذا القرن، إذ كان محور المقاومة في هذه المنطقة من العالم بالمرصاد لسياسات الهيمنة والتفرّد ولعالم الأحادية القطبية. فعزَّز هذا المحور التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب من خلال قدرته الناجزة والهائلة على التصدي لهذه السياسات. وبهذه القدرة التاريخية استطاع جذب القوى الحيّة في العالم إلى جانبه «عقائدياً وبراغماتياً» من روسيا الاتحادية إلى الصين…إلخ.
وها نحن نشهد اليوم عالم انكسار القطبية الأحادية التي طفت وطغت بين 1985 «استلام ميخائيل غورباتشوف منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي» – 2015«وقوف روسيا الاتحادية إلى جانب الشعب السوري في محاربة الإرهاب تلبية لطلب من الحكومة».
خلال تلك الفترة من الزمن سجّل الموقف الوطني المقاوم في سورية ولبنان وفلسطين والعراق والجمهورية الإسلامية تاريخاً جديداً ناصعاً أغرَّ لوطننا، وللأمتين العربية والإسلامية، تم فيه التصدي للمشروع الصهيوأطلسي – الرجعي العربي الرامي إلى صياغة جغرافيا وتاريخ ومستقبل جديد إشكالي للعرب وللمسلمين عامةً.
في مقابل هذا، ومعه، لم ينكفئ الغرب الاستعماري وذيوله الخبيثة في المنطقة عن اللعب بالنار وبالدم، بالمادة وبالروح. ويبدو – للأسف – أنه لم يُصب بالإحباط واليأس، بل انتقل إلى درجات في تسعير الصراع هي أخبث من السابق وأكثر فتكاً وإيلاماً، دخلت معه الامبريالية والرجعية العربية في الطور الوحشي، وتجرَّدت من القيم الوطنية والعروبية والأخلاق الإنسانية, وعملت على تحويل العالم إلى غابة ملأتها بوحوش العصر من المتطرفين والتكفيريين والإرهابيين ليكونوا أداة أساسية في تحقيق أطماعهم في عالم جديد ينتجه ما سُميّ زوراً بـ «الربيع العربي». عالم الفوضى الخلاقة لرايس، والشرق الأوسط الجديد لبيريز.
في هذه المرحلة من التاريخ وقفت سورية بثقلها التاريخي والمعاصر، وبمبادئها وثوابتها شعباً وجيشاً وقيادة لتقول لهذه الأطماع والمشاريع «Stop» . ولتجترح ما يشبه المعجزات في صمودها وتصديها ودعمها للتيار التحرري المقاوم، وانتقل بموقفها التاريخ لتكون دمشق مركز القرار في «المسألة الشرقية»، لكن المسألة الشرقية هنا ليست على غرار ما كانت عليه في استنبول في القرون السابقة.
فاجتذبت دمشق بصمودها وبمقاومتها مع القائد الأسد أصدقاء وحلفاء وأنصاراً كثر من مختلف بقاع الأرض، وتحطّمت على أسوارها الأطماع المخطط لها من أكذوبة، بل مؤامرة «الربيع العربي»، أطماع ترمي إلى تحويل المنطقة جرّاء اكتشاف مخازين الطاقة إلى غابة يتلاشى فيها الشعب والمجتمع والدولة والسيادة والكرامة والحقوق.
وقفت دمشق صلبة في وجه دائرة التطبيع والاستسلام والتآمر على القضية المركزية، وعلى حقوق الشعب وقضايا الأمة، ولم تَهَبْ توسُّع هذه الدائرة، ومن انسياق عدد من الأنظمة العربية للتنسيق سرّاً وعلانية خلف الخطط الصهيونية الأمريكية الفتّاكة. وبموقفها هذا ترسّخت مقاومة هذه الخطط بما أسهم في كسر سياسات الهيمنة والقطبية الأحادية وفي دعم التوجّه نحو عالم متعدد الأقطاب حققت خلاله الدول الصديقة والحليفة – بفضل الموقف العربي السوري – حضورها ودورها في المنطقة والعالم. هذا ما يؤكده الواقع، وما سيسجّله التاريخ لها.
فلا يظنن أحد أن محور المقاومة مختزل في دول أربع، بل هو كامن في نفوس جماهير الأمة، وهو حيّ ويقظ في الشارع العربي. ولن يطُل الزمن الذي سينتفض فيه الشعب العربي على أنظمته المتخاذلة ويقف مع محور المقاومة، ولن يسكت هذا الشعب وهو يخسر مصالحه وحقوقه وتطلعاته وقضاياه الوطنية والقومية والإنسانية مع هكذا أنظمة تبيع الكرامة والسيادة، وتستمرىء الذل والمهانة أمام نذالة البترودولار تجاه القدس وصنافير وتيران وصفقة الغاز الإسرائيلية مع مصر وما يجري في سورية واليمن…
في الشارع العربي قلق وضياع واستلاب لن يطول أمام الافتراء على فضائل محور المقاومة ومنجزاته، وفي هذا الشارع شعور بالحاجة إلى حركة تحرر عربي جديدة ومغايرة تناسب التصدي للجيل الرابع من الحروب التي تسلّط شراً على حاضره ومستقبله.
هذا الشارع وأصدقاؤه من أحرار العالم وشرفائه باتوا يدركون جيداً كيف سقطت الأقنعة عن وحوش العصر، ولماذا تتوجه الأنياب والمخالب نحو دمشق، وسيدرك الجميع أن المقاومة سبيلاً ودليلاً ونهجاً وثقافة هي العروبة وهي الإسلام التاريخي المحمّدي، وهي أكبر من الافتراء عليها بالتطييف والمذهبة، والتضييق عليها بمحور أو «هلال»، ومن حرف التناقض المصيري مع المشروع الصهيوأطلسي – الرجعي العربي إلى التناقض معها.
وها نحن نرى في الغوطة «الشرقية» اختباراً ومصداقية لما سبق ذكره ونحن نواجه خليطاً من الإرهابيين التكفيريين يُفتضح فيه توزيع الأدوار الخبيثة، وتتكشّف خلاله مخططات خصوم دمشق العروبة.
د. عبد اللطيف عمران