“لعبة المحاكاة” عالم في غرفة التحقيق
” إذا أردت أن تسمع ما ترغب به، عليك أن تنصت بهدوء دون أن تقاطعني، فإن لم تستطع عليك أن تغادر هذه الغرفة” هكذا بادر المتهم الهادئ بالكلام قبل أن يبدأ المحقق عمله.
يعود بأفكاره إلى البدايات، حين لم يكن لأحد أن يعلم ما الذي يعمل عليه وقد وصلت الشرطة إلى مختبره بعد بلاغ من جيرانه بأنه تعرض لسرقة ما.
– إن كان هناك ما يفيدني الآن فهو سيدة تنظف لي المكان وليس رجل شرطة.
“ما الذي يخشاه هذا الرجل حتى ينكر تعرضه للسرقة” هذا ما دار في رأس الضابط وهو يغادر المختبر.
ها نحن الآن على بعد ساعات من إعلان الحرب العالمية الثانية، ساعات وتعلن بريطانيا والحلفاء المواجهة مع ألمانيا، والقائد العسكري يقف أمام “تورنج” غير متحمس لانضمامه إلى الفريق الذي يعول عليه للقيام بأعظم مهمة في تلك المرحلة، بينما الرجل يخبره أن السياسة ليست هواه؛ يقول “أفضل أن أكون أعظم عالم رياضيات في العالم على ذلك” يجيبه القائد “إن هذا اللقاء سيكون الرقم القياسي لأقصر مقابلة عمل في الجيش البريطاني” ويكمل “إن آلاف الأشخاص قد تم رفض طلبهم للانضمام للبرنامج”.
“أنا لا أتكلم الألمانية” يهمس تورنج؛ فيصرخ القائد وهو يفتح له الباب كي يغادر: كيف لك أن تعمل على تفكيك شيفرة الجيش الألماني وأنت لا تتكلم الألمانية، إن انضمامك للفريق نوعاً من المزاح.
– أنيغما.
كلمة يلفظها “تورنج” تجعل القائد يقف متسمراً في مكانه ينظر بدهشة إلى الرجل غريب الأطوار.
“أنيغما” هو اسم الجهاز الذي لم يكن لأحد أن يعلم عنه شيئاً والذي يستخدمه الألمان كآلة تشفير لتغطية الاتصالات خلال عملياتهم الحربية. وهو ما يعمل البريطانيون على اختراقه بغية اختصار مدة الحرب، محاولات من قبل الروس والفرنسيين والأمريكان باءت بالفشل وهاهو “تورنج” يقدم على التحدي ويبدأ العمل على واحد من تلك الأجهزة التي تم تهريبها إليهم من قبل البولنديين، حيث اعتراض كل رسالة يعني منع جولة مرعبة من القصف، والحفاظ على أرواح كثيرة سوف تزهق.
والحرب لعبة أتقنها الألمان في حينه، حيث يعلمون أين ومتى عليهم التحرك وإظهار السلاح؛ كان ذلك بامتلاكهم أقوى برنامج تشفير مكنهم من تمرير رسائلهم إلى الجنود كي يتم استهداف مواقع الحلفاء وتحويل المدن البريطانية إلى مجرد أثر ودمار.
هكذا يقوم تورنج والفريق المكون من عدد من “علماء وأبطال لعبة الشطرنج وخبراء لغويين” بعدة محاولات كان يعلم في قرارة نفسه أنها لن تأتي بنتيجة مفيدة طالما عملية البحث تعتمد الطريقة الكلاسيكية، لذا يبدأ العمل منفرداً على صناعة آلته الخاصة التي تحاكي “أنيغما” والتي أسماها “كريستوفر” تيمناً بصديق طفولته المفضل، بعد جهد كبير وفي لحظة من اللحظات وقد أخذ منه اليأس وضغط قائده العسكري وسخرية البعض وخيانة بعض آخر، يتمكن من الإمساك بالحلقة المفقودة في آلته، والتي تمكنه بالتالي من تقليص مدة الحرب وإنقاذ ملايين الناس؛ ما جعل رياح الحرب تسير كما رغبت بريطانيا وحلفاؤها.
الفيلم الذي أنتج في العام 2014 يحكي قصة “آلان تورنج” الحقيقية والذي يعتبر الأب الحقيقي والمطور لأجهزة الحاسوب، وقد اقتبست قصته عن سيرة العالم الذاتية الواردة في كتاب “آلان تورنج اللغز” ونال عنه أوسكار أفضل نص مقتبس، ليروي الحكاية من خلال عرض مراحل حياته وعرض طفولته البائسة حيث يركز على علاقته بصديق طفولته “كريستوفر” حين ظهرت ميوله المختلفة عن بقية الفتية وبداية الاضطراب النفسي الذي سيعاني منه طويلاً، ليكون الفيلم نوعاً من إيفاء الرجل “الذي قدم أكبر مساهمة فردية في انتصار الحلفاء خلال حربهم مع ألمانيا النازية” حقه ليس لأهمية إنجازه وموقعه العلمي أو لكونه عالماً في المنطق والفلسفة فحسب، بل أيضاً للمحنة الكبيرة التي تعرض لها عاشق الرياضيات في العام 1952 وخياره الخضوع للعلاج الكيميائي الذي أضر بصحته بدل الابتعاد عن كريستوفر اختراعه الأثير، وهي مدة الحكم القضائي عقاباً له على ميوله الشاذة، الأمر الذي سيدفعه للإقدام على الانتحار بعد ذلك بعامين حين كان في عمر الثانية والأربعين.
الفيلم امتلك العديد من عناصر القوة الفنية ما بين الإخراج “مورتن ديلتون” والتصوير والموسيقا والأداء العفوي الرائع للممثلين الكبار من بينهم “بنديكت كمبرباش في دور آلان” وكيرا نايتلي بدور حبيبته، ما خوّل العمل للعرض في أكثر من 45 مهرجاناً دولياً والفوز بأكثر من ثلاثين جائزة فنية.
بشرى الحكيم