تباً للياسمين!؟
د. نهلة عيسى
لا شيء يشغلني هذه الأيام سوى الجلوس أمام شاشة التلفاز, كالعجوز الهرمة, طال بها العمر, وقل الإدراك والفهم,لأراقب بتمعن, كرة القلق الهائلة, التي تدحرجها وقائع ما يجري في وطننا وحوله إلى أعماقنا, لتزيد يقيننا أننا في العراء, وأن الجري العالمي على المسرح الدولي, والمُطعم بنكهات إنسانية, بحجة إيقاف نهر الدماء المتدفق, هو مجرد مصنع أمريكي جديد, لتعليب الدم السوري في عبوات, تتفق وذوق شاربي دمائنا, وتنسجم مع مصالحهم السياسية والاقتصادية, فدين هؤلاء, والرب منهم براء, حرم الخمرة ولكنه لم يحرم الدم!.
نحن في العراء, أمام فرق الإعدام القادمة إلينا عبر حدود وبتمويل الأشقاء ومن ظننا أنهم أصدقاء, وعلى مرمى رصاص الشياطين في الداخل والخارج, بالاستناد إلى إستراتيجية أمريكية, تعرت إلى ما قبل الصفر في لغة احترام البشر, لتحطم كل تماثيل القش التي نحتتها في شرقنا, على مدار أكثر من نصف قرن, عبر تأبطها وصايا تمثال الحرية, وادعاءاتها بالديمقراطية وحقوق الإنسان, والتي لاتشمل في العرف الأمريكي إلا المخيمات (مخيمات ما أسموه لجوءاً), التي صنعوها على حدود الوطن, لتكون مصنعاً لتفريخ الإرهابيين, وخنجراً في ظهر الوطن!!.
نحن في العراء, فماذا بعد؟ أنا حقاً لا أنتظر من هؤلاء بعد, سوى المزيد من تمزيق الثوب, لأن رعاة الحرية أفصحوا منذ سبع سنوات, عن جوهر هويتهم, وحاولوا استدراجنا إلى الملامح التي يحددونها لصورتنا, وإلى عملية التباس الفوارق بين الحرية والتبعية, وإلى صياغة جديدة لمفهوم الإرهاب, يتحول فيه آكلو الأكباد وشاوو الرؤوس إلى ثوار, ومغتصبو المحارم والمحتمون بالأطفال والنساء, إلى قادة كتائب الحرية!؟.
ماذا بعد؟ سؤال مترف, ولكن تجاهله صعب, لأن الموت في وطننا وحده بقي الترف, ولأن لاشيء يرتجى منهم سوى الخراب.. فأول ما أسموه ثورة يدل على آخرها, والطريق واضح وحاد, ويقيناً ليس هناك أسطورة ستنسجُ بتدخلٍ مباغت من القدر, لتحمل حلمنا الجماعي بالسلام, من المسرح الدولي إلى دمشق, كعقد من غار أو ياسمين يقلد نصراً به عنق الوطن, ويقيناً أيضاَ, أن الصبار في مجلس الأمن يستحيل أن يغدو ياسميناً!؟.
ماذا بعد؟ ونحن وباستسلام متبلد نستيقظ صباح كل يوم, لنحمد الرب أننا استطعنا النوم, لأن ذلك معناه أن لا قصف, ولا هاون غادر, ولاخفافيش تتسلل من تحت أقدامنا لتمص دماءنا, وأن الحالة الأمنية هادئة نسبياً, وأن ضباع الليل في أوكارهم, ولو إلى حين, رغم أن صحونا صار وجعاً, وكيف لا, ونحن الخبر الأول في نشرات الأخبار, التي ترتزق من خرابنا, وتتغذى من بؤسنا اليومي, وتثمل ابتهاجاً بجلسات مجلس الأمن, ومؤتمرات جنيف وسوتشي وأستانة, فهم تفاصيل مثيرة في حكايتنا الطويلة, وهم ذريعة جديدة لنشر جروحنا على الأسلاك الشائكة وهواء الأثير, حيث نبدو مجرد دمى بلاستيكية بلا ملامح, ولا مشاعر, ولا إرادة, وبلا رغبة بالعيش, لأن القصف الناري أرحم ألف مرة من قصف تجاوزات ومذلات مانراه على الشاشات.
ماذا بعد؟ وكل يوم نشهد ونستشهد, ونتشفى ولا نتشافى ببعضنا البعض, ونتيقن أن الصمت بات عباءتنا, بعد أن بدأ بعضنا يغادر بعضنا دون كلمة, دون وداع, فقط في صمت مصفح, متكاسل, رخو, هلامي, يشبه التفتت والتلاشي, ولايعكر بؤسه سوى ذاك الشخير التاريخي, من المحيط إلى الخليج, ومن حلقات الذكر والمولوية في الأحضان اليهودية, حيث بات “نتنياهو” نبي بعض العرب!!.
ماذا بعد؟ وصباحنا يعاقر الموت والفقد, كمخمور أصيب بنوبة جنون فتحول إلى وحش كاسر, فقتل وجرح وهَجر مئات الألوف, قبل أن يتكرم علينا بالانتحار, لتلصق التهمة بالرب الغاضب والقضاء والقدر, والاختبار والاستحقاق, والغريب الحاقد, والقريب المغرر به, والمآل آلاف من الشهداء, وآلاف مؤلفة من القتلة لانعرف أسماءهم ولاملامح وجوههم, فمن نحاسب!؟.
ماذا بعد؟ سؤال كما قلت شديد الترف وصباحنا ملتبس, ولكنه على الأقل صباح في الوطن, وفنجان قهوة وصوت فيروز يرسم خريطة وطن, يقول ونحب ما يقول: في أمل, أحياناً بيطلع من ملل!!.