ثقافةصحيفة البعث

صرخــــةٌ خرســـاء

رأيته في تابوته ميتاً.. كل ما فكرت به كان أنه عاش يوماً وكان يتنفس ذات الهواء.. قالوا كان في العشرين، أو أكبر قليلاً، قالوا كانت عيناه عسليتان، وكان طويلاً وكان اسمراً، كان جميلاً جداً كان حياً، ولكن كل ما رأيته منه وجهاً أصفر بعيداً كل البعد عن الجمال والحياة.. أنا رأيته حزين، تعيس، وحيد، كئيب.. لقد كان جثة.. هنالك الآلاف منهم يدفن كل يوم لم يسمع بهم أحد..

رأيتها.. صغيرة هي كبراعم الأزهار.. جديلتها أجمل من عنقود عنب على دالية يئست من الإنجاب سنيناً طوال.. حافيةٌ هي كالأحلام المسرعات، يتيمةٌ هي كتفاحةٍ عجزت أيدي الجوعى أن تطالها قبقيت تنتظر السقوط، فقيرةٌ هي كتنوّر جدتي الذي نسي معنى الطحين، ترقص بين السيارات الصماء كعصفورٍ صغير.. تمد يدها لتطلب الحياة ممن لا حياة فيهم.. قالوا لي أنها متسولة.. فلِم رأيتها جميلة.. لم أردت أن أمد يدي لهؤلاء المساكين.. لما أردت البكاء على أكتافهم..

إنها تنتظر منذ وقت طويل.. لا أحد يعرف إن كانت هي من تنتظر أم الطريق وشجرات الجوز هن من ينتظرنها لتعود إلى رشدها وتقفل عائدة إلى ذلك القبر الحزين.. قالوا أنها لم تصدق أنه قبره.. ولا زالت تنتظر ذاك القادم البعيد، هي كل يومٍ تتجرع الأمل مكذبةً رؤى اليقين، قالوا أنها جنت ولكن، لم أخاف تلك الثقة في عيونها بأنه سيعود.. لم أصبحت أصدق جنونها! أحياناً أراه قادماً مثلها مع أني دفنته معها.. ربما هم مخطئون هي لا تنتظر أن يعود بل هي ناظرة للرحيل.

غبيةٌ هي تتحّسس بطنها.. إنها تريد ذكراً يحمل العرش العتيد.. زوجة أحمق مدينتا ابن من لا يعرف العد حتى الاثنين.. إنه لا يعرف حقاً أن دمشق هي نفسها الشام، ولكنه لمجده الموبوء يريد صبياً.. قال لها الطبيب أنثى وللشهر الثامن أنثى،  وهم لا زالوا يأملون أن تقلب صبياً. يقولون أنه سيهجرها، سيقتلها.. هم لا يسمعون، ولكني أكاد أقسم أني أسمع بكاءها.. أسمع الأنين في شهقاتها أنها ستلد لهذا العربيد،  فمن يصدّق أني أتكلم مع الجنين.

لقد هجره أولاده بعد أن أصبح كابوساً مقيتاً أصبح كالأرض الميتة بعد أن اقتاتوا خيراته وصار عليهم عبئاً ثقيلاً زرعوه فحصدوه فأكلوه، ثم لكانون الأسود رموه. إنه لا ينتظر منهم أحداً مع أنهم أحياء.. قالوا إنه أصيب بالخرف، ولكن هل الخرف حقاً عاقل كهذا الحزين. لقد أخذوا كل شيء منه إلا كوابيسه ومرارة سنينه، ليتهم تركوا سنبلة واحدة تتسلى بها تلك الأرض القاحلة.. يقولون أنه أصبح يصيبهم بالقرف وهم يأكلون، ولهذا خذلوه، فلم أره نقياً جداً وخصباً جداً.. لم أرهُ جميلاً

يرون أشياء ويقولون أشياء، وأنا بدوري لست عمياء ولست صماء أرى وأسمع ما أريد، وأنتم يا من تتعذبون بصمت أتمنى أن أصرخ في وجه هذا العالم الأصم ليسمعكم، ليفهمكم، ليبكي عليكم، وعلى نفسه أنتم أيها الطيبون لا أحد سينقذكم، فالعقوا جراحكم وامضغوا أحزانكم جيداً قبل أن تناموا، لعل أحدهم يسمع صوت صمتكم ويرى بؤس فرحكم.. أيها الكون ارأف بحال هؤلاء التعساء ولا تشقهم أكثر حتى لا يكرهوك.

بثينة أكرم قاسم