ماكرون على خطا أسلافه
هيفاء علي
منذ أن وطأت قدماه قصر الإليزيه يسعى ايمانويل ماكرون لإعادة فرنسا إلى المشهد الدولي للعب دور جديد على الساحة الدولية بعد عشرة أعوام من الجمود، وتعهّد بالتحرر من سياستي سلفيه السابقين هولاند وساركوزي. إلا أنه لم يشرح للرأي العام الفرنسي ماهية السياسة التي ينوي اتباعها وقيادتها، فعند تسلمه رئاسة فرنسا كان عديم الخبرة في السياسة الخارجية، ويجهل طبيعة العلاقات الدولية فيها على اعتبار أنه متخصص في المجال الاقتصادي. فما كان أمامه من خيار سوى الاعتماد على مستشاره جان-بيير جوييه، مدير التفتيش العام للمالية، جهاز قوامه 300 موظف رفيعي المستوى، الذي أعطاه دروساً تدريبية مكثفة حول السياسة الخارجية.
لقد ضعفت مكانة فرنسا جراء السياسة المتبعة من قبل الرئيسين السابقين، ساركوزي وهولاند، وجراء غياب الأولوية والتقلبات الكثيرة وصف مراقبون الوضع الفرنسي بـ “غير المتماسك”، ولم تكد تبدأ ولاية ماكرون الرئاسية حتى سارع إلى لقاء أكبر عدد من رؤساء الدول والحكومات ليظهر أن فرنسا تتوضع كقوة وسيطة قادرة على محاورة الجميع.
بعد المصافحة وتلبية الدعوة على العشاء، تعيّن عليه شرح مضمون سياسته، فنصحه جان-بيير جوييه بالبقاء في الحيز الأطلسي والتركيز على الديمقراطيين الأمريكيين الذين يتعين عليهم، برأيه، العودة إلى البيت الأبيض قبل انتخابات 2020.
ومن ثم رسخت فرنسا تحالفها مع لندن في الوقت نفسه الذي خرج فيه البريطانيون من الاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على علاقات متينة مع برلين، حيث يتعين على الاتحاد “الفرنسي- البريطاني” التركيز على إدارة اليورو، وإنهاء التبادل الحر مع الشركاء الذين لا يراعونه، وإيجاد شركات كبرى على الانترنت قادرة على منافسة (غوغل، ابل، فيسبوك، وأمازون). كما تعيّن عليه إنشاء منظومة دفاع أوروبي مشترك ضد الإرهاب، إضافة إلى أن فرنسا تواصل عملياتها العسكرية في مالي والمشرق بعدما دمّرت الدولة الليبية بذريعة إنقاذ الشعب الليبي من “الظلم”، وضلوعها في الحرب السورية من خلال دعم التنظيمات الإرهابية بالسلاح والمال والمرتزقة بذريعة “إرساء الديمقراطية ونصرة طلاب الحرية”.
في أيلول 2017، عيّن ماكرون جان بيير جوييه سفيراً لفرنسا في لندن، وفي كانون الثاني 2018، أطلقت فرنسا والمملكة المتحدة تعاونهما الدبلوماسي والعسكري، ومن ثم عملتا على تشكيل هيئة سرية (مجموعة صغيرة) لإحياء الاستعمار الفرنسي– البريطاني للشرق الأوسط.
هذه السياسة، التي لم يناقشها ماكرون أبداً مع الرأي العام الفرنسي، تتجاهل تاريخ فرنسا والطلب الألماني بالقيام بدور سياسي دولي أكثر قوةً في الوقت نفسه. ذلك أن فرنسا التي تمثل الاقتصاد الرابع عالمياً وبعد سبعين عاماً على هزيمتها في المشرق، بقيت تؤدي على الدوام دوراً ثانوياً.
فيما يخص العالم العربي، تبنّى ماكرون وجهة نظر مستشاريه الاثنين في هذا المجال: الفرنسي-التونسي حكيم الكروبي وسفير فرنسا السابق في دمشق ميشيل دوكلوس. السيد الكروبي ليس منتوج الاندماج الجمهوري، وإنما نتاج البرجوازية العليا، تبنّى خطاباً جمهورياً على الصعيد الدولي، وآخر جماعي مشترك على المستوى الداخلي، أما دوكلوس فهو من المحافظين الجدد الذين شكلهم جان-ديفيد لوفيت في عهد جورج دبليو بوش. وعليه يبدو أن المستشار الكروبي لم يفهم أن “الإخوان المسلمين” هم أداة الاستخبارات البريطانية، ولم يفهم دوكلوس أن لندن لم ترفض اتفاقات سايكس-بيكو التي جعلتهم يخسرون نصف امبراطوريتهم في الشرق الأوسط، وعليه لم ير كلا الرجلين مشكلة في “التفاهم الودي” مع تيريزا ماي، وبالنتيجة بوسع المراقب تلمس عدم الترابط في هذه السياسة.
إذاً، لا تختلف سياسة ايمانويل ماكرون عن سياستي ساركوزي وهولاند، حتى لو أنها اعتمدت على المملكة المتحدة أكثر من اعتمادها على الولايات المتحدة، على الرغم من وجود ترامب في البيت الأبيض، ويواصل الإليزيه فكرة نهوض اقتصادي ليس في فرنسا فقط، وإنما في امبراطوريتها الاستعمارية السابقة، وهنا يتعلق الأمر بالخيارات نفسها التي تبناها “غي موليه” أحد مؤسسي مجموعة ” بيلدبيرغ”، عام 1956 تحالف رئيس المجلس الفرنسي مع لندن والكيان الصهيوني لشن عدوان على مصر بهدف الحفاظ على حصته في قناة السويس المؤممة من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وطلب من نظيره البريطاني، أنطوني أيدن، أن تنضم فرنسا إلى الكومنولث، وتقدم ولاءها للملك، وأن يحصل الفرنسيون على نفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها الايرلنديون الشماليون. الفرنسيون لم يسمعوا بذلك المشروع المتعلق بالتخلي عن الجمهورية، وانضمام فرنسا إلى المملكة المتحدة تحت سلطة الملكة اليزابيت الثانية، ولم يناقشهم أحد به على الإطلاق، فما أهمية المثالية في المساواة بالحقوق الذي أصدر عام 1789 وما معنى رفض الاستعمار الذي عبّر عنه الشعب الفرنسي تجاه الانقلاب الذي أحبط عام 1961 عندما دعم الناتو سراً انقلاباً عسكرياً للإطاحة بالجنرال شارل ديغول. بنظر السلطة الفرنسية، السياسة الخارجية لا تتعلق بالديمقراطية البتة.