مستقبل إسرائيل .. مقاربات متعددة مع تركيز خاص على علم الاستعمار الاستيطاني المقارن
د. جورج جبور دكتور في القانون الدولي / سورية
منذ إعلان إسرائيل عن إقامة كيانها الغاصب عام 1948 وسؤال المستقبل يلاحقها: كم من السنوات ستدوم، وما العوامل التي ستؤدي إلى ديمومتها، والأخرى التي ستكون السبب في زوالها؟
لا ريب أن هذه الأسئلة هي نتاج طبيعي لشعور عام مؤداه أن ولادة هذا الكيان لم تكن قانونية وطبيعية، إضافة إلى عدم قانونية ظروف تطورها وتوسعها القائم على الاعتداءات المتلاحقة، وقد أحسن من وصفها بأنها غدة سرطانية.
وسيحاول هذا البحث الإجابة عن هذه الأسئلة في ضوء المعطيات المتوافرة، من خلال عرض مبررات الدراسات المستقبلية وحدودها، ومقاربتين مختلفتين لمستقبل إسرائيل، وقراءة مستقبل إسرائيل وفق علم الاستعمار الاستيطاني المقارن ونظرة الأمم المتحدة للموضوع، خاصة وأن ولادة إسرائيل كانت من رحم هذا التنظيم الدولي في عملية بدأت عام 1922.
الدراسات المستقبلية
للدراسات المستقبلية تاريخ عريق بدأ مع بداية البشرية، وترسَّخ مع الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية والإسلام، حيث يتحدثان عن قضايا مستقبلية تتعلق بقيام الساعة وموضوع “الروم” وأنهم من بعد غلبهم سيغلبون.
وهناك استشرافات مستقبلية في العصور الحديثة، مبنية على معطيات واقعية، ومنها ما توقعه توكوفيل الفرنسي، منتصف القرن الـ 18، بأن من المستحيل جعل الجزائر فرنسية، ولقد كتب ذلك في وقت كان تطلق فيه فرنسا على الجزائر تسمية “فرنسا ما وراء البحار”، كما توقع بأن قطبي العالم سيكونان أمريكا وروسيا، وبنى توقعه على ما لدى الدولتين من قدرات وثروات، كما انتشرت في القرن العشرين مراكز الأبحاث المستقبلية، ولاسيما في أمريكا والغرب، ومع تقدم العولمة، أصبح “علم المستقبل” واحداُ من ركائز الحياة المعاصرة.
وأما مبررات الدراسات المستقبلية فهي كثيرة، وأولها شوق الإنسان إلى معرفة ما يخبئه الغد، ويغذي هذه الدراسات التقدم العلمي الكبير، إلا أن حدود هذه الدراسات كثيرة أيضاً، وإذا كان من السهل توقع التطورات الديموغرافية مثلاً، فمن الصعب توقع أن يكون يوم ما بعينه هو يوم 11 أيلول 2001 موعداً لتنفيذ أعمال إرهابية.
وقد لاحظت منذ الستينيات خلال دراستي للدكتوراه في العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية أن هناك اتجاهاً رياضياً تحت عنوان “البوليتيكومتريكس” وعلم الاقتصاد الرياضي “الأيكونومتريكس” على علاقة بذلك، وأن مراكز الأبحاث الإستراتيجية تتابع هذا الاتجاه إلى جانب دورها في الرصد والتقييم التقليديين للظواهر السياسية.
وأشير هنا إلى أن الدراسات السياسية المستقبلية تتسم ببعض من عدم الدقة، نتيجة عدم قدرتها على ضبط كل عوامل الفعل السياسي، إلا أن عدم الدقة ليست مسوغاً للابتعاد عن محاولة استشراف المستقبل، ولعلي هنا، أحاكي ما فعله مؤرخ جنوب أفريقيا آرثر كبل جونز، الذي اختار عنواناً مثيراً لكتاب نشره أواخر الأربعينيات، قبل نشوء الأمم المتحدة، وبعد استيلاء حزب الأبارتايد على السلطة هناك، وكان العنوان هو “تاريخ جنوب أفريقيا من عام 1952 إلى 2010” حيث تنبأ بزوال حكم الأبارتايد، وهو ما حدث.
حتميتان لاهوتيان
تحفل الأدبيات المتداولة بشأن مصير اليهود ومستقبل إسرائيل بحتميتين لاهوتيتين: واحدة إسلامية والثانية يهودية، ويعتمد معظم المؤمنين بالحتمية الإسلامية على ما يقوله القرآن الكريم بهذا الشأن، وخاصة الآية الرابعة من سورة الإسراء التي تقول أن “التتبير” وتعني الدمار هو مصيرهم، لكن هذا لا يعني أن كل المسلمين يؤمنون بأن مستقبل اليهود هو “التتبير” وهناك منهم من لا يأخذ بالتفسير الحرفي لتلك الآية أو غيرها.
أما القائلون بالحتمية اليهودية، فيرون في بعض الكتابات التوراتية ما يدعم وجهة نظرهم، وأن أرض فلسطين هي لليهود بموجب وعد إلهي، ولنلاحظ أن تصريح بلفور لم يشر إلى مبرر إعطاء اليهود حقاً في فلسطين رغم وضوح الجذر الديني فيه، وأنه حين أقرت عصبة الأمم صك الانتداب على فلسطين عام 1922، جعلت المبرر تاريخياً، ولم تذكر أي مبرر ديني، إلا أن الحكومة البريطانية في 23 نيسان 2017، وفي معرض إعلانها عدم نيتها الاعتذار عن تصريح بلفور، ذكرت أنه لتصريح بلفور مبرر تاريخي وديني.
لكن، تبقى فكرة الوعد الإلهي متداولة دينياً، وخادمة مخلصة للاستغلال السياسي في إسرائيل، رغم أنها مرفوضة علمياً وعلمانياً، ولنلاحظ أن الوعد الإلهي لا يعني أن كل اليهود، أو كل الصهاينة ومنهم من يؤيد الفكرة التي تقول بأن إسرائيل الحالية الراهنة هي التي أوصت التوراة بإنشائها، وأن المدى الجغرافي للوعد الإلهي هو موضع جدل مستمر، وثمة خلافات جذرية في هذا الموضوع بين الصهاينة أنفسهم.
والسؤال: هل يتزايد أنصار القائلين بحتمية لاهوتية إسلامية؟، ونجيب من الصعب تأكيد ذلك، إذ أن بعض من يزعم أنه يحارب الصهاينة هو منخرط في أجندة محاربة المسلمين والمسيحيين بدلاً منهم، فيما يمكن الجزم بأن البعض الآخر منهم مقيمون داخل حالة كمون يمليها تقدير الموقف أو الضعف.
على كل حال، إذا أخذنا بالقول المتداول من أن التطرف يولد التطرف، يصح التفكير بأن تصاعد نفوذ أنصار الحتمية اللاهوتية اليهودية سوف يؤدي إلى تصاعد نفوذ أنصار الحتمية اللاهوتية الإسلامية، لكن قد يؤدي التطرف عند طرف إلى رضوخ عند الطرف الآخر، خاصة إذا كان طرفاً ضعيفاً.
وهنا، لا ينتهي حديث الحتميات اللاهوتية إلى نتيجة مقبولة لدى الجميع، لكن للمؤمن بحتمية لاهوتية مسافة أمان، وأن الحتمية التي يؤمن بها ستفرض نفسها على الأرض في مدى زمني غير محدد، ما يجعل مستقبل إسرائيل في المدى المنظر مسألة غامضة وفق مقاربة الحتمية اللاهوتية.
الاحتمالات السياسية
تتنوع مشاهد مستقبل إسرائيل وفق هذه المقاربة، وخاصة مع محاولات تصفية القضية الفلسطينية، وانخراط أنظمة عربية في “صفقة القرن” “وصفقة العصر” ما يعني أن هناك وجهة نظر تتناقض مع المشهد السابق الذي تحدث عن الاحتماليتين اللاهوتيتين، ومؤدى وجهة النظر هذه هو أن قضية فلسطين أصبحت قضية الإنسانية جمعاء، وأنه لن يهدأ للإنسانية بال إلا إذا استعاد الفلسطينيون حقهم المغتصب، مع بعض التنويعات في تفاصيل هذا الحق.
ويسوق دعاة وجهة النظر هذه أدلة تظهر تصاعد قوة القضية الفلسطينية داخل دوائر التنظيم الدولي، ومن هذه الأدلة، انسحاب أمريكا وإسرائيل من اليونسكو، وإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تحت الباب السابع من الميثاق وبموافقة الأغلبية، وينص حق الفلسطينيين بالقدس، وهو قرار مساو في قوته لقرار مجلس الأمن.
إذا المشاهد متنوعة ومتناقضة هنا، كما أن السياسة الدولية ملأى بالمفاجآت، وهي علم وتآمر بآن معاً، وهي حسابات موضوعية، وتفاعلات حدس وهاجس ونرجسية أيضاً، وهنا نسأل: من كان من العرب أو غيرهم قد تنبأ بأن الرئيس السادات سيزور إسرائيل؟، ومن كان يتنبأ أن اغتيال رابين سوف يعزز الاتجاه الديني اليميني في إسرائيل، بدلاً من تقويضه؟
ونجيب بأنه ليس للاحتمالات السياسية ضوابط يمكن أن ترشدنا إلى ما سيكون عليه مستقبل إسرائيل، وهنا تتأقلم المقاربة الدينية مع مفاجآت مقاربات الاحتمالات السياسية، كما تتأقلم معها الدراسات الاسترجاعية، فتجعل من زيارة السادات إلى القدس أمراً متوقعاً، وتجعله كذلك، لكن ليس قبل أن يحدث، بل بعد أن يحدث.
باختصار، ثمة احتمالات في علم المستقبل السياسي تحاول الحواسيب محاصرتها، إلا أن السياسة، وهي اختيار إنساني، تبقى طليقة إلى حد لا بأس به، متمردة على علم السياسة الرياضي، خاضعة للحدس والهوس والحسابات الشخصية، ويبقى علي أن أتجاوز القول السابق إلى نقيضه، فأتابع: وسيستمر مع ذلك علم السياسة الرياضي في محاولته ترويض ما يصعب ترويضه.
علم الاستعمار الاستيطاني المقارن
إن انتقال الأفراد و/أو الجماعات من مكان إلى آخر هو ظاهرة عرفتها البشرية منذ القدم، وقد تتنوع أسباب الانتقال، وقد تكون اجتماعية واقتصادية أو دينية أو غير ذلك، وليس بالأمر المتنازع فيه أن تشكيلات الدول الحالية تجسد حالات انتقال سكاني، إلا أن الظاهرة الأهم تاريخياً في موضوع الاستيطان هي تلك التي عرفها العالم إثر الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر.
وبما أن القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك قد مارست الاستيطان في المناطق المكتشفة حديثاً فمعنى ذلك أن استعمارها لم يكن بقصد الاستغلال الاقتصادي فقط، بل كان بقصد الاستيطان، ومن هنا يمكن القول: إن هناك استعمار استيطاني قام به غرباء، وأن هؤلاء الغرباء كانوا في معظم الحالات من الأوروبيين، وعملوا على استيطان أرض معينة لا تخصهم، وقد تكون دولة، وجاء هذا الاستيطان نتيجة التأييد الضمني أو العلني للنظام والقوى السياسية الأوروبية ذاتها، وحيث أخذ المستوطنون، بعد توطيد استيطانهم، بممارسة السلطة فوق تلك الأرض أو القطر، وفوق من كان أو لا يزال فيها من سكان أصليين.
أما علم الاستعمار الاستيطاني المقارن فهو المقاربة العلمية التي تدرس التجارب المتعددة للاستعمار الاستيطاني، وتحاول استخلاص قواعدها الثابتة، وأساس هذا العلم هو مقارنة أسباب وأساليب انتقال الأفراد والمهاجرين من بلادهم إلى بلاد الاستيطان في ظل قوة استعمارية مهيمنة، وفي ظل شعور بالتفوق الذاتي، العنصري أو الديني، ثم مقارنة تفاعل المستوطنين مع السكان الأصليين في ظل تلك القوة، ثم مقارنة نظم التفرقة العنصرية والتمييز العنصري التي يقيمها المستوطنون بعد تشكيلهم كياناً سياسياً مستقلاً، ثم مقارنة مستقبل النظم الاستيطانية.
وبالطبع، ثمة تمايزات في كل حالة من حالات الاستعمار الاستيطاني، إذ أن بعض تجارب الاستيطان لم تصل إلى مرحلة يشكل فيها المستوطنون كياناً مستقلاً كحالة مستوطني الجزائر، وبعضها كان للتنظيم الدولي دور أساس في إحداثه، مثل إسرائيل، بينما كان لهذا التنظيم نفسه دور القضاء عليه، كما في حال جنوب إفريقيا وروديسيا.
كما علينا ملاحظة أن الاستعمار الاستيطاني يتميز عن الاستعمار التقليدي بثلاثية العلاقة التي تحكمه، وأنه هناك طرفان في الاستعمار التقليدي هما المستعمر بالكسر والمستعمر بالفتح، بينما هناك طرف ثالث في الاستعمار الاستيطاني هو المستوطن، وأن المستعمر هو من أتى بالمستوطن، وأن تزايد عدد المستوطنين يولد لهم مصالح تختلف عن مصالح الدولة الاستعمارية، ما يجعل الطرفان يضطهدان السكان الأصليين، إلا أن اضطهاد المستوطنين للسكان الأصليين يبقى أعتى وأشد، ولأنه للدولة الاستعمارية حضور دولي يستوجب التزامها بالأخلاق إلى حد ما، بينما نجد أن المستوطنين قوة داخلية في المكان الذي يمارس عليه الاستيطان، وهذا الانحصار في الداخل يحجب عنهم ضغوط الخارج، ولذا كثيراً ما يلوح للسكان الأصليين في الاستعمار الاستيطاني أن عدوهم هو المستوطن وأن الدول الاستعمارية هي حكم بين الطرفين، وعلى الرغم من أنها هي من سمح بالاستيطان وشجعته.
وهذه الخصيصة هي إحدى السمات التي تميز علم الاستعمار الاستيطاني عن غيره، إضافة إلى تركيزه على العلاقة الثلاثية واستنطاقها، وبالرغم من أن هذا العلم لم يكن غائباً عن تاريخ تطور العلوم الاجتماعية، إلا أنه لم يجذب كثيراً من الاهتمام.
وتدلني المتابعة التي قمت بها، إلى أن علم الاستعمار الاستيطاني ازدهر في الستينيات، ومع أنه كان موجوداً على أرض الواقع، لكن لم يبادر الأكاديميون إلى تسليط الضوء عليه في الأكاديميات الغربية الكبرى التي تصنع العلم، وإن سبب عدم مبادرتهم هو غياب المصلحة في التعريف به، ما جعل علم الاستعمار الاستيطاني علماً مبعثراً في حقول أكاديمية متعددة، ولكل حقل منها عنوانه الخاص.
ولننظر إلى أن دراسة الاستيطان الأوروبي في أمريكا تتم تحت عنوان “الاكتشافات الجغرافية” وفي الجزائر تحت عنوان “سياسة فرنسا الاستعمارية” بينما تتم دراسة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين تحت عناوين عديدة، منها اللاهوتيات اليهودية والمسيحية.
وإما سبب ازدهار علم الاستعمار الاستيطاني في الستينيات، فلأن أجواء سياسية ملائمة أدت إلى ذلك، وقد ابتدأ ذلك العقد بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 1514 الذي يعطي الشعوب الحق في نيل استقلالها، وتتابعت فيه أحداث تحررية وسياسية، مثل استقلال الكونغو بقيادة لومومبا، ونجاح الجزائر في التحرر من الاستعمار الفرنسي، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية وإصدارها الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1964، وإعلان أيان سميث الاستقلال المنفرد عن المملكة المتحدة، وترافق كل ذلك مع ما نتج عن الاحتلال الإسرائيلي في حزيران 1967 من سياسة اعتداء على الفلسطينيين وتوسع استيطاني، كما ترافق مع توسع تمثيل الدول الأفريقية في الأمم المتحدة، وتصاعد النضال في الأقطار الجنوبية من أفريقيا ضد العنصرية، وعقد مؤتمر عدم الانحياز في الجزائر في أيلول 1973 وحرب تشرين التحريرية وإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 10 تشرين الثاني 1975، القرار رقم 3379 الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية.
في تلك الأجواء تصاعد الحديث عن الاستعمار الاستيطاني. وبدأت سلسلة مقارنات سريعة بين تجارب الاستعمار الاستيطاني المختلفة، ولقد نشرت في آب 1970 كتاباً بالإنجليزية بالتعاون مع مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت وجامعة الخرطوم في السودان، وعرضت فيه ملامح علم الاستعمار الاستيطاني، وركزت على ثلاثة تجارب ذات أهمية راهنة سياسياً آنذاك، هي تجارب جنوب أفريقيا وفلسطين وروديسيا الجنوبية.
وبعد عام وبضعة أشهر، وجهت سورية رسالة رسمية إلى جامعة الدول العربية، أحثها على تنفيذ مشروع وضعته، وتبناه السيد الرئيس حافظ الأسد بإنشاء “مؤسسة بحثية لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن في العالم”.
ومن الممكن هنا أن أقدم تعريفاً موجزاً لعلم الاستعمار الاستيطاني استناداً إلى كتابي، لأقول بأن تفكير المستوطنين في استيطان أراضي ومناطق جديدة في الدول التي استعمرتها بلدانهم الاستعمارية خلال النشاط الاستعماري والامبريالي، قد انطلق من عنصرية حضارية و/أو دينية اعتقدوا سراً بها، وجاهر بعضهم بها في أحايين كثيرة، لكنهم جهودهم انصبت على إقناع دولهم الاستعمارية باستصدار وثيقة تعطي استيطانهم شرعية من دولهم، خاصة وأن دول الاستعمار والامبريالية كانت تعاطف معهم وتقدم لهم كل الدعم، ولقد تبلورت الوثيقة المنشودة في ثلاثة تجارب، وكانت الأولى في “الميثاق” الذي منحته بريطانيا لسيسيل رودس، والثانية في “الدستور المؤسس لاتحاد جنوب أفريقيا”، والثالثة في “تصريح بلفور”.
على أساس هذه الوثائق توغل المستوطنون بأساليب مختلفة داخل الأراضي التي اغتصوبها واستوطنوها، واعتدوا على السكان الأصليين وأخذوا منهم ممتلكاتهم، وأصدروا بصفتهم سلطة أمر واقع قوانين وأنظمة قيدت حركة المواطنين الأصليين، حتى إذا فشلت تلك القوانين بإخضاع المواطنين الأصليين، تأتي القوة الغاشمة لترغمهم على ذلك، بشكل تجاوز فيه المستوطنون قوانينهم وأنظمتهم العنصرية ذاتها.
ثم يتقدم علم الاستعمار الاستيطاني ليدرس ردود الفعل على الاستيطان محلياً – أي وطنياً – وإقليمياً ودولياً، ويخطو بعد ذلك خطوة أخرى، تتمثل بتبني رؤيتين للمستقبل: الأولى للمستوطنين وتقوم على التفوق، وثانية للسكان الأصليين وتزعم أنها تعتمد على العدالة المستمدة هنا من سمو أخلاقي يدعيه من يسمون أنفسهم متفوقين.
وأضيف بأن الفترة من بداية الستينيات حتى منتصف السبعينيات هي القترة الزمنية الأنسب سياسياً لإنضاج علم الاستعمار الاستيطاني، ففي فلسطين، زاد الصهاينة استيطانهم وجرى توقيع اتفاقية سيناء الثانية عام 1975، وزيارة الرئيس السادات إلى القدس، ثم أخذت الأمور تسير عربياً ودولياً باتجاه تذويب التناقض في فلسطين بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين السكان الأصليين لصالح الإقرار بتفوق المستوطنين، ولم يساعد استقلال زيمبابوي وتصاعد النضال في جنوب أفريقيا في التأثير عربياً ودولياً لصالح كشف خطورة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، ولم يستغل المعنيون ذلك، إضافة إلى تقاعس الجامعات والأكاديميات العربية المعنية بتناول ظاهرة الاستعمار الاستيطاني عامة والاستيطاني الصهيوني في فلسطين عن هذه المهمة، باستثناء جامعة الخرطوم.
أما معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، وهو الذي أحيل إليه مشروع الرئيس حافظ الأسد، فقد اكتفى بأمرين، أولاهما: أنه كلفني لمرة واحدة تدريس مقرر عن الاستعمار الاستيطاني، ولعدة أسابيع، وثانيهما: أنه أصدر كتاباً عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وكان الكتاب كارثة علمية حفلت بمعلومات غير ممنهجة عن واقع الاستيطان التوسعي في فلسطين.
أما الجمعية العربية للعلوم السياسية وكان مقرها بغداد، وقد جرى اختياري رئيسا للجنتها التحضيرية عام 1977، فقد حاولت بذل جهود طيبة حول علم الاستعمار الاستيطاني وخاصة القرار /3379/ الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وساوى بين الصهيونية والعنصرية، لكن سلوك رئيس النظام العراقي السابق أدى إلى فشل جهود الجمعية، وأدى التمويل الذي قدمه النظام العراقي السابق إلى اشتغالها بتأييد سياسات صدام ضد إيران، ثم آلت الأمور، بعد انتهاء عهد الرئيس العراقي السابق إلى فوضى تمويلية وتنظيمية وفكرية، وكان من أبشع مظاهرها أن أحد مؤتمراتها الفكرية، وقد عقد في مصر بتنظيم من الدكتور علي الدين هلال، قام بتمويله رجل أعمال مصري من أكبر دعاة التطبيع مع إسرائيل.
وأختم ببارقة أمل لم تسعفني قدراتي التكنولوجية على توثيقها، وهي أنني قرأت ذات يوم على شبكة الإنترنت خبراً يقول بأن جامعة أمريكية أحدثت مقرراً لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن.
كما أثبت هنا فقرتين أوردهما أكاديميان عربيان في وصف دراسات الاستعمار الاستيطاني، الأولى للدكتور سميح فرسون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية بواشنطن ضمن دراسة نشرتها مجلة “شؤون فلسطينية” /العدد47تموز1975ص164/ بعنوان “جنوب أفريقيا وإسرائيل: علاقة خاصة” حيث كتب ما يلي: “لم يدرس الاستعمار الاستيطاني والدول التي شيدها المستعمرون دراسة كافية، ولم يحلل تحليلاً نظرياً، وتشتمل المحاولات الأخيرة المتسمة بنفاذ البصيرة على ب. لـ. فان دونبرغ (1967)، وإيمانويل (1972)، وجورج جبور (1970)، وإبراهيم أبو لغد، وبهاء أبو لبن (1974).
والثانية للدكتور مجدي حماد، رئيس جامعة خاصة في لبنان، حين أورد في كتابه “النظام السياسي الاستيطاني..دراسة مقارنة: إسرائيل وجنوب أفريقيا” /بيروت، دار الوحدة، 1981، 300 صفحة): “إن ظاهرة الاستعمار الاستيطاني، وخاصة الدول التي شيدها المستعمرون، لم تدرس دراسة كافية، ولم تخضع لتحليل نظري متكامل، وتشمل المحاولات الحديثة نسبياً، المتسمة بالتعمق، على دراسات فان دين بيرج (1967)، وجورج جبور (1970)، وإيمانويل (1972)، وإبراهيم أبو لغد، وبهاء أبو لبن (1974)، وريتشارد ستيفينز، وعبد الوهاب المسيري (1977)”. وكتابه هو رسالة دكتوراه كان أعدها في جامعة القاهرة.
وأذكر هنا للدكتور عبد الوهاب المسيري فضله في متابعة البحث في الاستعمار الاستيطاني، وقد تجلى ذلك في موسوعته المعروفة “اليهودية والصهيونية وإسرائيل” وأذكر تمسكه بالأخلاقيات الأكاديمية من خلال تعامله مع كتاباتي في حقل دراسات الاستعمار الاستيطاني.
مع ذلك، فإن دراسات الاستعمار الاستيطاني، من حيث فائدتها في تأجيج النضال ضد الأطماع الصهيونية، قد عانت من النكسات، بدءاً من اتفاقية سيناء الثانية عام 1975 التي تلاها صدور القرار 3379 ومن المفيد لصالح علم الاستعمار الاستيطاني، أن نتساءل عن أثر القرار 3379 على دراسات الاستعمار الاستيطاني؟
لقد كان القرار 3379 أخطر قرار عانت منه الصهيونية واستعمارها الاستيطاني، وهددت واشنطن من يؤيده بالعقاب، ما أدى إلى غياب البحث العلمي، وغياب الهمة السياسية، وجرى ترك القرار لمصيره، ثم استولى عليه تفسير ديني معين يربط بين اليهودية والقرار، وساد فهم خاطئ بشأن القرار داخل أروقة الأمم المتحدة وبأنه إقرار من الأمم المتحدة بأن اليهودية عنصرية، مع أنه قرار علماني بالمطلق، وبعيد عن أي مضمون ديني، وأنه مبني على أسس علم الاستعمار الاستيطاني، ومع ذلك، نجحت إسرائيل في هذا التوظيف الديني للقرار، وأقنعت الأمم المتحدة بإلغائه، وقد نجحت.
وإذا حاولنا تحليل ما جرى، فسنجد أن الفكر العربي قد غاب عن العناية بهذا القرار، وأننا بالكاد نجد بضعة مفردات حوله في كل كليات الحقوق العربية، كما تخلو خطط الثقافة العربية ومجلداتها من الحديث عن العنصرية الصهيونية.
وهنا نعود إلى جوهر البحث، وهو السؤال عن مستقبل إسرائيل بمقتضى علم الاستعمار الاستيطاني، ونبين أنه إذا كانت الإجابة غائبة الآن، بسبب طبيعة علم المستقبل في الدراسات الاجتماعية، إلا أن بعض المؤشرات تدل على أن مستقبل إسرائيل مهدد بمقتضى علم الاستعمار الاستيطاني.
وهنا، يأتي التهديد الأوضح من حقيقة ثابتة أولى تفيد بأن إسرائيل تمارس سيطرة على مجموعة بشرية، سيعد قريباً أكثر من نصف تعدادها من الفلسطينيين، وهذا النصف يتجه نحو الازدياد وليس التناقص، وبهذا المعنى، فإن السيطرة الإسرائيلية هي حكم أقلية على أكثرية.
وهناك حقيقة ثابتة ثانية هي أن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي مستمر، ولا رغبة بأحد بضبطه، بما في ذلك الحكومة الإسرائيلية نفسها، ولدرجة وجود ولع صهيوني بالتوسع الاستيطاني الذي تغذيه عاطفة دينية جامحة لا يرضيها إلا قيام إسرائيل الكبرى ضمن ما يراه صهيونيون حقاً تاريخياً لهم من الفرات إلى النيل، ولقد أدت هذه العاطفة إلى اغتيال رابين، وانعكست على السياسة الإسرائيلية التي شهدت بعد اغتيال رابين مزيداً من تعمق التطرف السياسي الصهيوني والديني اليهودي، حيث يمارس المستوطنون ولعهم الاستيطاني على الرغم مما يسببه ذلك من انتقاد دولي للحكومة الإسرائيلية، وتكون النتيجة أن من يدعم الاستيطان من قادة الصهاينة هو من يتولى الحكم، ثم يأتي من بعده حاكم آخر أكثر دعماً، ولأن جماعات الاستيطان تستولد من رحمها جماعات أكثر ولعاً بالاستيطان، وهكذا دواليك، إلى أن تأتي لحظة غير متوقعة تكون السبب في مهد اختفاء إسرائيل.
أما الحقيقة الثابتة الثالثة فهي أن العالم يبدو اليوم أكثر انزعاجاً من إسرائيل من الأمس، وسيكون أكثر انزعاجاً غداً من اليوم، ومكمن الانزعاج هو سلوك الاستيطان ومطالبة قرار مجلس الأمن 2334 الصادر في 23 كانون الأول 2016 بوضع حد للاستيطان في فلسطين، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 21 كانون الأول 2017 برفض نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وثمة عنوان ثالث للانزعاج العالمي هو تصاعد التأييد الدولي لحملة مقاطعة إسرائيل المعروفة باسم “بي دي إس”.
وتعد الحقيقة الرابعة الأهم مما سبقها، وخلاصتها أن المقاومة الفلسطينية، بأشكالها كافة، حتى المسلحة منها، ليست في طريقها إلى الزوال، بل في تصاعد مستمر، ويستشهد يومياً فلسطينيون بنيران الإسرائيليين، سلطة ومستوطنين، وهناك قتلى من المستوطنين، وإذا كانت بعض الأنظمة العربية تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، ومع ما يحكى عن “صفقة العصر” إلا أن المشاعر العامة في البلاد العربية والإقليمية والدولية ما تزال تناهض إسرائيل، وما تزال الأنظمة المطبعة تشعر بجذوة العاطفة الشعبية المتوقدة وتحذر من المجاهرة بخططها التطبيعية.
والكل تابع في العاشر من شباط الماضي الفرحة الشعبية العربية والإقليمية الواسعة حين سجلت سورية نجاحاً عسكرياً بمواجهة الغطرسة العسكرية الإسرائيلية، وأسقطت المضادات والصواريخ السورية طائرة إسرائيلية متفوقة، وهو أمر يشد على سواعد المقاومة ورافضي التطبيع.
لكن السؤال: هل تستطيع المؤشرات السابقة أن تحسم الأمر؟
ونجيب بأن الحسم مستحيل، وإذا كان جانب العلم يتقدم في السياسة، إلا أن السياسة تبقى عملاً لا يمكن التنبؤ الدقيق به في معظم الأحوال، ذلك أنه بعد أيام على مؤتمر دربان لمناهضة العنصرية الذي شهد عزل واشنطن وإسرائيل نتيجة إلحاح المنظمات غير الحكومية على ضرورة إعادة الاعتبار للقرار 3379 شهدت نيويورك أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وبدأ الرئيس بوش خوض مغامراته العسكرية العدوانية بحجة محاربة الإرهاب.
وبتاريخ 20/10/2001 ألقيت في مركز زايد بالإمارات محاضرة عن مستقبل إسرائيل وفق مضمون علم الاستعمار الاستيطاني، وتوقعت فيها بأنه بعد عشرين عاماً، سيكون عدد من تسيطر عليهم إسرائيل من الفلسطينيين أكثر من عدد الصهاينة، وأنه مهما حاولت إسرائيل نفي حقيقة أن الصهيونية حركة عنصرية فسيبقى هناك كثيرون يؤمنون بذلك، وعلى الرغم من إلغاء القرار 3379 سيواصل العالم النظر إلى إسرائيل على أنها عنصرية، ومع أن موضوع المحاضرة أتى مخالفاً للسلوك السياسي لدولة الإمارات، إذا بالمحاضرة تظهر عنواناً لافتاً في عدد كبير جداً من وسائل الإعلام في الإمارات والسعودية ودول الخليج، وانهالت علي الدعوات لتقديم المحاضرة الشفهية ذاتها، ومع توالي الأيام والسنوات، فوجئ العالم بجديد في هذا الموضوع بتاريخ 24/9/2012 حين ظهر في صحيفة نيويورك بوست الأمريكية، تصريح لهنري كيسنجر يتنبأ فيه بأن إسرائيل ستزول في عشر سنوات.
ثم نشرت مقالاً في صحيفة البعث السورية بتاريخ 26/7/2013 وفي جريدة الديار اللبنانية بتاريخ 1/8/2013 تحت عنوان “مستقبل إسرائيل بين الحتميات اللاهوتية وعلم الاستعمار الاستيطاني وتفاعلات السياسة الدولية” ولقد أخذت حذري في المقال من قدرة علم الاستعمار الاستيطاني والعلوم الاجتماعية على التنبؤ.
وأضيف هنا بأن علم الاستعمار الاستيطاني بصفته يدرس المستقبل يشير إلى أن إسرائيل تتجه نحو التراجع، وأن وجودها بات محل شك، وليس لأن وجودها يخالف القوانين الدولية ويغتصب حقوق الغير ويخالف المثل العليا الراهنة للبشرية فحسب، بل لأن معادلات القوة على الأرض ستخضع مستقبلاً لتغييرات عميقة.
الأمم المتحدة والاستعمار الاستيطاني
بدءاً من إقرار شرعة حقوق الإنسان إلى قرار الأمم المتحدة 3379 إلى قرار مجلس الأمن 2334 فقد كانت بداية التنظيم الدولي مخزية أخلاقياً بالتعامل مع الاستعمار الاستيطاني، لدرجة أن دولة استيطانية قوامها التمييز العنصري، هي جنوب أفريقيا كانت دولة مؤسسة لعصبة الأمم، ومن طليعة مقترحي نظام الانتداب، ومارست سلوكيات انتدابية على جنوب إفريقيا.
كما بدت البداية المخزية في تبني عصبة الأمم عام 1922 صك الانتداب على فلسطين، وجعلت من فكرة الانتداب شركة استعمار استيطاني مكلفة بجلب المستوطنين من كل دول العالم إلى فلسطين، جلباً يؤدي إلى تهجير سكانها الأصليين.
ولقد ورثت الأمم المتحدة دور عصبة الأمم وسلوكها، ولم تنظر في صك الانتداب، وتحكم ببطلانه، بمقتضى ميثاقها الذي يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها، والمفارقة أنها تابعت تنفيذ مضمون صك الانتداب، فأصدرت قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947 والذي جعلته الشعوب الحرة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وتتالت قراراتها الظالمة، بدءاً من قرار قبول إسرائيل في عضويتها، وصولاً إلى اليوم.
كما أنه منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، برزت ظاهرة الاستيطان على أرض يعرفها القانون الدولي بأنها واقعة تحت الاحتلال، والمفارقة أن الأمم المتحدة احتفلت عام 1968 بالذكرى العشرين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأعلنت أن 1968 هي سنة دولية لحقوق الإنسان.
مع ذلك، فقد رسخت سنة 1968 شرعة حقوق الإنسان وحق الشعوب بتقرير مصيرها، وكان من الطبيعي آنذاك أن تشهد فلسطين بعض العدالة، لكن بدل أن ينصب جهد الأمم المتحدة على معالجة وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال، انصرف إلى رصد إنشاء المستوطنات وانتهاك للقانون الدولي، وصولاً إلى النظر في طبيعة الصهيونية بصدور القرار 3379 في 10/11/1975 والذي بدت الأمم المتحدة فيه كأنها نزعت الشرعية عن إسرائيل.
ومن المفيد التذكير بأن القرار يصف الصهيونية بالعنصرية اعتماداً على جوهرها كأيديولوجيا استعمار استيطاني، وليس على أساس ارتباطها باليهودية، ولقد قال لي نائب مندوب الهند إلى الأمم المتحدة في حينه، وهو صديق قديم، أن كتابي عن الاستعمار الاستيطاني هو والد القرار المذكور.
ومع أن مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة قد مزق النسخة الورقية للقرار 3379 في جلسة إقراره، وتعهد بدفع الأمم المتحدة المصدرة له على إلغائه في وقت قريب، فقد واصل التنظيم سلوك المخيب للآمال، وقرر عام 199ض تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي إلغاء القرار.
ومع بدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بداية التسعينيات، فقد أثمرت اتفاقية أوسلو عن شيء واحد هو المزيد من الاستيطان والمزيد من انتهاك حقوق الفلسطينيين، ولدرجة أننا نسمع حالياً ومن بعض الصهاينة أنفسهم أن القرار 3379 هو واجب الاتخاذ اليوم أكثر مما كان عليه الحال عام 1975.
إلا أن هذا الواجب ما يزال خارج نطاق المتداول الدبلوماسي الراهن، ومع أن القرار قرار مجلس الأمن 2334 الصادر نهاية 2016 الذي يطالب الكيان الصهيوني بوقف الاستيطان والانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 هو قرار تصفه إسرائيل بأنه لا يقل خطورة عن القرار 3379 ومن المتوقع أن تحاول الصهيونية الحد من أثره وإلغاءه، وبدأت حملة بهذا المسار.
وهنا نصل على العام 2017 الذكرى المئوية لصدور تصريح بلفور، والذي يفترض أن يكون عام توحيد الجهد العربي تجاه قضية فلسطين، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل، ومر انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2017 من دون أن يتحدث أحد، وعلى الرغ من نداءات منظمات المجتمع المدني العربية للاستفادة من المناسبة، ويبدو أن الأنظمة العربية اكتفت عام 2017 بما أنجز عام 2016 أي القرار 2334 وأن القراءة الأدق للحالة العربية تكشف تراجع الاهتمام الرسمي العربي بقضية فلسطين وتقدم دعاة التطبيع.
ومن الواضح أن الصهيونية قرأت الحالة العربية، واستثمرتها عن طريق الرئيس الأمريكي ترامب الذي أصدر في الأيام الأولى لرئاسته عام 2018 قراراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وكالعادة فقد كان الرد الفلسطيني والعربي بارداً.
وإذا كنا نفكر بالمستقبل، فسنكون عام 2022 مع الذكرى المئوية لصدور صك الانتداب على فلسطين، وينبغي أن نبدأ العمل لكي يقف التنظيم الدولي وقفة جادة مع الصك، فيحاكمه، خاصة وأن العديد من التجارب المؤلمة تكشف أن الاستيطان، ومهما كانت دوافعه وأساليبه، إنما هو تأسيس للعنصرية التي يعد القضاء عليها أهم معلم من معالم نجاح التنظيم الدولي.
نظرة ختامية
منذ ولادة إسرائيل وسؤال المستقبل يلاحقها، وإذا أوضحت السطور السابقة حدود علم المستقبل تجاه هذه القضية الإنسانية، إلا أن المتابعة البحثية في نطاق علم المستقبل تبدو ضرورية، وخاصة الجهود المتعلقة بتحقيق العدالة، وفق أساليب متعددة.
وهنا، يبدو الأسلوب الأقوم هو استئناف الجهد الذي وجه إلى بذله الرئيس حافظ الأسد، ووافقت عليه الدول العربية، وجوهره إحداث مؤسسة لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن، ولقد نشرت تفصيلاً عن ذلك في كتابي “مذكرات إلى رئيس مجلس الوزراء السوري” الصادر عام 1989
وهناك أسلوب البحث الفردي والجماعي لباحث أو مجموعة باحثين، وبهدف متابعة الأدبيات البحثية المتعلقة بمستقبل إسرائيل من خلال جمعها وتدقيقها ومناقشتها ونشر أبحاث بشأنها، وهناك من هذا القبيل كتاب مهم ألفه الباحث الدكتور تامر مير مصطفى تحت عنوان “زوال إسرائيل: النبوءة الأخيرة” ونشرته دار المحجة البيضاء في بيروت عام 2013 ويتكون من 415 صفحة ويزخر بدراسات قيمة عن الاستعمار الاستيطاني في أمريكا، ويحفل بتوثيق ممتاز عن التنبؤات بزوال إسرائيل من منطلق أقرب إلى الديني.
وهناك أسلوب ثالث هو التحالف مع المستقبل القريب لإثارة الاهتمام، وهذا ما حاولته حين أطلقت، متأثراً بمؤتمر دربان، وبدءاً من عام 2002، مبادرة تطالب بريطانيا بالاعتذار عن تصريح بلفور، وقد تطورت المبادرة بفضل الرابطة السورية للأمم المتحدة، إلى الاهتمام بمئوية تصريح بلفور، ونجحت في ذلك إلى حد ما، وهنا اقترح أن نتحالف مع مئوية التنظيم الدولي التي تبدأ عام 1919، ومع مئوية صك الانتداب التي تبدأ في عام 1922 وعلى أن نعمل على بطلان صك الانتداب.
وهناك أسلوب رابع شبيه بتشكيل مثقفين سوريين لجنة دعم القرار 3379 وبمعنى تشكيل لجنة من القانونيين وعلماء السياسة والمهتمين لدعم القرار 2334 الذي يجب دعمه اليوم، والإسهام في تنفيذه، ومطالبة الأمم المتحدة بإعلان يوم صدوره يوماً عالمياً لمناهضة الاستيطان.
(هذه المقالة هي جزء من بحث مطول جرى اختصاره لأسباب فنية)