ثقافةصحيفة البعث

في يوم الشعر

البلدان التي بلا فنون هي بلاد ذاهبة حتما إلى الهاوية؛ لو وضعنا ما سبق بين قوسين ونسبناه إلى الفيلسوف فلان أو فلان، لكان الأمر مرّ على العديد من القراء، لا بل لوجدناه محفورا ربما بماء الذهب في مكان ما، فلا يوجد لعبارة كهذه وردت في الفلسفة عموما(خراب البلدان سببه خراب فنونها)، لكن الحقيقة ما من مذهب فلسفي باستثناء “الستلانية-الماركسية” إن صح اختصار المرحلة بالتسمية السابقة، إلا وجعلت للفنون بأنواعها الأهمية الكبرى لقياس رقي تقدم المجتمعات وتطورها، فمن المسلم به، أن البلد الذي فيه دور مسرح وسينما ورقص وغناء، وفيه شعراء وروائيون وقصاص قصص قصيرة..ألخ، ليست كالبلدان التي لا يوجد فيها ذلك، وبالتأكيد البلدان التي تحترم المعايير الصارمة لقيامة هذه الفنون، هي البلدان الأقوى فكريا وعلميا وعسكريا حتى، فعلاقة الفنون مرتبطة بالوجدان الجمعي لكل أمة، أما ما يقابلها في حال لم توجد، فهو مثال “داعش” عن الحياة ورأيه فيها!.

في بلدنا وكما هو معروف للقاصي والداني، تولى الفنون اهتماما مرموقا من الدولة، فهي حاضرة بالشكل أولا من خلال وجود العديد من دور السينما والمسارح والأكاديميات، التي تقدم العلم لمن يود الخوض في الفن عموما، أيضا لدينا ما يكفي من المنابر التي يحتاجها الشعراء، ليلتقوا بالجمهور، ولدينا مكتبات وكتب وطابعات وتقنيات كثيرة وعديدة لنكون روادا في هذا المجال، إلا أن الكلام السابق كله يمكن نسفه بشيء ناقص لا تكتمل الفنون والدنيا نفسها بدونه، الإنسان، محور الحياة برمتها بما فيها فنونها التي هو من ابتكرها، وهو من وضع قوانينها، وهو من طورها، وجعلها إرثا ماديا ولا مادي أيضا عظيم بما هو فيه كائن ومكون، ينهض كل جيل برايته التي استلمها من الجيل الذي سبقه، ما يعني تدفق الدماء في أوردة تلك الفنون، وسكب المعرفة الحسية والمادية للفنان فيها، وجعلها أولا تحقق ما هي موجودة لأجله- ولهذا المقام حديث طويل- وثانيا تقدم مناحي تطورها بذاتها، لتكون هي ذاتها المناحي التي تسعى المجتمعات عموما للتطور فيها.

كسوريين تاريخيا، كان الشعر ولا زال فننا الأرقى والأكثر قدرة على التعبير عما في مكنوناتنا، بغض النظر عن الخوض بالنوع الآن، والذي هو أي نوع الشعر “عمودي- تفعيلة- نثر ..ألخ” لم يزل مثار جدل لمّا ينتهي أو يحسم بعد، وفي اليوم العالمي للشعر الذي يعتبره الكثير من الشعراء والنقاد بدعة توحي ربما بموت الشعر نفسه، يمكننا التأكيد بما لا يدع مجالا للشك، أنه ما نفس تقريبا، إلا ويدخلها الشعر وصوره وإيحاءاته العالية، فيسكب فيها ماءه الصافي، ويغمرها بشعور تختبره ربما أيضا للمرة الأولى، حسب الحالة النفسية التي يكون القارئ فيها، كما يمكننا التأكيد، أننا كسوريين خصوصا وكعرب عموما، لما يزل الشعر بيتنا، وعمود خيمتنا، وصوت خيالنا، حمّال رغباتنا، وكنز أمالنا الشاقة، ففي إحصائية غير رسمية، 7 من بين عشرة من الأشخاص، خاضوا بالشعر، وأعملوا عضلات فكرهم فيه، فهل زدنا الأفق سعة بهذا؟، أم أننا أسأنا من حيث لا ندري إلى الشعر، وإلى رسالته، وإلى جماله المصاغ من مطر الكلام؟.

في مطلع كل يوم جديد، يطالعنا شاعر أو شاعرة جديدة، وبسرعة البرق يصبح لهذا الشاعر-ة، كينونة ووجود من خلال ما تجود به قريحتهم من كلام، ولكن هل يمكننا فعلا اعتبار أن وجود هذا الكم الهائل من “الشعراء” يًبنى عليه لنقول إن هذا الفن العظيم، لا زال باستطاعته أن يرتقي بحامله أولا، وبمن حوله تاليا، وفي مجتمعه الذي هو فيه بالضرورة؟ هل لمسنا هذا؟ هل وجدنا حركة إلى الأمام في هذا الفن، تجعله شجرتنا المقدسة، ومنارة قوة ومنعة، يكتسبها تلقائيا من يكتسب قيم الشعر في الجمال والحق والخير؟، الإجابة عن أسئلة متتالية وشاقة كهذه في يوم كهذا اليوم، ليست بالضرورة مطلوبة، فمن حيث المبدأ، يمكن للجميع، حتى لأولئك الذين لا يعلمون ألف باء القصيدة، الخوض بالشعر، وهذا ما رأيناه ونراه يحصل في كل لحظة، فتحت كل حرف كما اسلفنا ثمة “شاعر” أو “شاعرة” ومن امتلك من المال ما يخوله طباعة ما “استشعره” ووضعه بين دفتي كتاب، صار “متنبي” زمانه، حتى لو كان كل ما كتبه لا يعادل حسيا ومعنويا، ولو قيمة حبر طباعته لما انفعلت عنه قريحته!.

البعض يذهب للقول أن هذا الكم الكبير من أعداد “الشعراء” الجدد، وإن كان على حساب الفنون الأخرى بل والعلوم الأخرى، لا ريب سيكون له أثره الإيجابي في النوعية بقادم الأيام، فهي وحدها–أي الأيام- من يصفي وينقي ويغربل، “العلاك” من “الشاعر”، والبعض يعتبر أنها لوثة اصابت الجميع، فكل ما تحتاجه لتصبح شاعرا لدينا مثلا، “واسطة” من العيار الثقافي الجميل، ودعاية تؤمنها تلك الواسطة بالضرورة، أما الجمهور، فكل شاعر أو شاعرة هو من يتكفل بهذا، وللأسف هذا قائم حتى ولو بدا لكم مثل “نكتة”، ففي واحدة من الأمسيات الشعرية التي أقيمت في واحد من مراكزنا الثقافية، اختلف الشاعر صاحب “الليلة” مع أصحاب “السرافيس” الذين صفوا أمام بيته، ليطلب شاعرنا إلى كل جار وجارة سواء يعرفهم أم لا، بالذهاب على حسابه، لحضور حفل شعريته في ليلته الكبيرة، وبعد أن انتهت الأمسية وجاء وقت الحساب وعودة الجيران إلى البيوت، كان الشاعر يلقي على مسامع واحد من المسؤولين عن ذلك المركز، بأنه يقوم بإحضار جمهوره على نفقته الشخصية، وإن لم يفعل شركائه من الشعراء في تلك الأمسية، مثل ما فعل، فإنه لن يقوم بعد الآن، بجلب ولا حتى مستمعا واحدا، لقصائده العصماء في تلك الأماسي المرهقة!.

وإن كان لا بد من كلمة في يوم الشعر عن الشعر، فيبدو أن كلمة الشاعر الداغستاني الكبير “رسول حمزاتوف” تنطبق على جميع من ذكرنا من شعراء اللحظة الراهنون، عندما قال: “أيها الشعر، لولاك لكنت يتيما”، أما العبرة، فندعها لكم كقراء لم تصبهم تلك اللوثة، ولا زالوا يستمتعون ببيت شعر جميل لأبي النواس مثلا، كما يستمتعون بتمّام البدر، ونوره يبعث فيهم البهجة، مجانا وبلا سبب أو واسطة.

تمّام علي بركات