المسرح رسالة الإنسانية للإنسانية
أثبت المسرح عبر قرون طويلة أنه المكان الأكثر قدرة على إيقاد شعلة التغيير والسير بالمجتمعات نحو الأفضل، إذ كان أول الفنون التي عملت على رصد هموم الإنسان وقضايا تحدياته على تنوعها، فكان العين التي تابعت حركة التغيير التي تطرأ على المحيط بكل مناحيها الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية، حيث بات وجهة نظر قادرة على إحداث كل الأثر، ما جعل منه الفن الأكثر تأثيراً في المجتمعات وأتاح للمشتغلين فيه الفرصة لترك بصمتهم المؤثرة والبناءة.
هكذا أصبح له الحق أن يحتفى به، في هذا اليوم الذي بات تقليداً عالمياً؛ ينتظره عشّاقه منذ العام 1962 وانطلاقاً من فكرة طرحها الفنلندي “آفربي كيفيما” رئيس المجلس العمومي للهيئة العالمية للمسارح، تقام خلاله الاحتفالات والنشاطات المسرحية وتوكل إلى إحدى الشخصيات العاملة في مجالاته؛ كتابة كلمة تترجم إلى لغات العالم وتقرأ على مسارحه في 27 آذار من كل عام.
أول تلك الشخصيات كان صاحب كتاب “80 يوماً حول العالم” الفرنسي جان كوكتو” بعدها تولى المهمة العديد من أهم المسرحيين العالميين والشخصيات المؤثرة “آرثر ميللر، بيتر بروك، الشاعر بابلو نيرودا، أنطونيو غالا، فيكتور راسكن باندا، إدوارد إلبي، من الهند جودي دينيش، جيسيكا. أ. كاهوا، أريان موشكين وجون ما لكوفيتش، أيضاً فتحية العسال من مصر بينما كان ابن سورية سعد الله ونوس أول من كتبها من العالم العربي في العام 1996.
في كل الكلمات وعلى اختلاف انتماء كتابها، إجماع على نقطة بالتحديد إضافة إلى خصوصية كل كلمة، هي رسالة المسرح تحديداً والفن عموماً بنشر السلام بين البشر.
في كلمته “الجوع إلى الحوار” حيث هو البداية لنشر العدالة والسلام بين البشر قال ونّوس: “لو جرت العادة أن يكون للاحتفال بيوم المسرح عنواناً وثيق الصلة بالحاجات التي يُلبّيها المسرح لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان “الجوع إلى الحوار” حوار متعدد، مركب وشامل، حوار بين الأفراد، حوار بين الجماعات” بعدها وضّح في جزئية منها ماهية المسرح وأهميته إذ: “هو في الواقع أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها أو افتقر إليها، ومهما بدا الحصار شديداً، والواقع محبطاً، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة وعلى مستوى العالم يحمي الثقافة ويعيد للمسرح تألقه ومكانته.
وفي كلمتها للعام 2004 رأت المخرجة المسرحية والروائية المصرية فتحية العسال في المسرح خير من يعبر عن حقيقة القهر الذي تتعرض له المرأة في العديد من المجتمعات فهو “أبو الفنون وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان” وقد آمنَتْ دائما بأن “أهم ما يميز الكاتب المسرحي هو امتلاء روحه برسالة إنسانية سامية ينشرها بين الناس من أجل الارتقاء بحياتهم وتحريرهم من عوامل القهر والاستغلال وانتهاك الكرامات”.
وعرض الفنان الفنزويلي “فيكتور هيغو راسكن باندا” في كلمته لاحتفالية العام 2006 لمخاطر التكنولوجيا التي أثرت سلباً على المسرح: “يجب علينا أن نعتبر كل يوم يمر بنا يوماً للمسرح العالمي، لأن شعلته كانت تأججت في ركن من أركان عالمنا خلال القرون العشرين الماضية، لقد تعرض المسرح دائماً إلى خطر الانزواء وخصوصاً مع بزوغ شمس السينما والتلفزيون والوسائط الرقمية التي ازدهرت في يومنا هذا، لقد غزت التكنولوجيا خشبة المسرح ودمرت البعد الإنساني فيه”.
وأضاءت الممثلة المسرحية الأوغندية “جيسيكا كاهو” في العام 2011 على دور المسرح في حمل رسالة السلام والمحبة بين الشعوب: “هل يتوقع في أي وقت أنه يمكن للمسرح أن يكون أداة قوية من أجل السلام والتعايش؟ إذ بينما تنفق دول مبالغ هائلة من المال على بعثات حفظ السلام في مناطق الصراع العنيف في العالم، فإن اهتماماً قليلاً يولى للمسرح كبديل؛ قادر على تحويل الصراعات وإدارتها. كيف يمكن لمواطني الأرض الأم تحقيق السلام العالمي عندما تأتي الأدوات المستخدمة لهذه الغاية من قوى خارجية وقمعية؟
أما تحية العام 2012 فكانت من خلال كلمة الممثل والمخرج الأمريكي جون مالكوفيتش في سؤاله لهم: كيف نعيش؟: “لتتباركوا بالموهبة والحماسة لتخبرونا عن نبض القلب الإنساني بكل تعقيداته، وعن الجزع والتطلع حتى يغدو ذلك هدف حياتكم، وأن تتمكنوا، في أفضل أحوالكم وفقط عندما يمكنكم ـ يقيناً ـ من اقتناص تلك اللحظات النادرة والخاطفة التي تضيء السؤال الأساس: كيف نعيش؟
في العام 2016 تساءل الروسي أناتولي فاسيليف حول ضرورة المسرح في حياتنا: “هل نحتاج للمسرح؟ ولأي شيء نحتاجه! ليقدم إجابته بالقول: “يستطيع المسرح أن يحكي لنا كل شيء، كيف هي الآلهة في الأعالي، وكيف يذوي المحبوسون في كهوف منسية تحت الثرى، وكيف يمكن للعواطف أن ترتقي بنا”.
وخلافاً للسابق تولت خمس شخصيات كتابة رسالة هذا العام، أشارت جميعها إلى دور المسرح في رأب الصدوع التي أحدثها الإنسان في جسد الإنسانية، فتحدث المسرحي الهندي”رام غوبال باحاج” عن مسؤولية الإنسان ودور الفنون الأدائية واللغة في خلق السعادة البشرية: “الأرض نفسها لن تنجو إذا لم نقم بتحرير السعادة المشتركة الناتجة عن الفنون المسرحية الحية والمعرفة” بما في ذلك التكنولوجيا “وإعادة رفعها وسموها عن الدنيوية والغضب والجشع والبشر”.
وأشارت المؤلفة المسرحية اللبنانية مايا زبيب إلى حجم الخطر الذي يشكله عصرنا الاستهلاكي على الإنسانية: “أصبحت سرعة المعلومات أكثر أهمية من المعرفة وحيث يأتي دور المسرح: “ليعيد للكلمات قوتها ومعناها، ليسترد الخطاب من السياسيين ويعيده إلى مكانه الصحيح إلى حيث ساحة الأفكار والمناقشة، حيث الرؤية الجماعية” وهو ما يتقاطع مع رسالة سيمون ماك بوريني الذي شدد على دور المسرح في أن يكون سببا للاجتماع والالتئام: “في تلك اللحظة من خلال الدراما نكتشف الحقيقة الأكثر عمقاً؛ أن ما اعتقدناه أكثر الأشياء خصوصية في انفصالنا عن بعضنا البعض وهو حدود وعينا الفردي؛ هو أيضاً بلا حدود إنه شيء نتقاسمه”.
وأوردت الكاتبة الصحفية المكسيكية سابينا بيرمان الفكرة ذاتها إذ المسرح: “أكثر من الأدب وأكثر من السينما يتناسب المسرح – الذي يتطلب حضور البشر أمام غيرهم من البشر- بشكل رائع مع مهمة إنقاذنا من التحول إلى خوارزميات وإلى تجريدية خالصة”.
أخيراً قدمت الفنانة الشاملة ليكينغ من ساحل العاج رؤيتها لرسالة المسرح السلمية: “عندما يصبح التمثيل مشاركة يذكرنا بالفعل الذي يفرض علينا قوة المسرح في جعل الجميع يضحكون معاً ويبكون معاً، من خلال تقليل حدّة جهلهم وزيادة معرفتهم حتى يصبح الإنسان مرة أخرى ثروة لأخيه الإنسان”.
“أعطني مسرحاً أعطك شعباً مثقفاً” هو ما قاله يوماً المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي إيماناً منه أن خشبة المسرح هي المكان الذي يمكن للثقافة أن تنطلق بكل حرية لتقود دفة التطور، فرغم كل ما يجري على هذه الأرض من دمار وقتل وكوارث لا يمكن لنا إلا أن نكون كما قال سعد الله ونوس في كلمته: “محكومون بالأمل، فما يحدث اليوم لا يمكن له أن يكون نهاية التاريخ”.
بشرى الحكيم