لا عفو عن كفر!؟
د. نهلة عيسى
مرتهنة أنا هذه الأيام لشاشة التلفاز تبث الأخبار من غوطة دمشق, أجلس أمامها بتوتر من يتابع الركلات الترجيحية في مباراة مصيرية, انتهت أشواطها الأساسية والإضافية إلى تعادل غير عادل, ولديه الأمل بأن ينصف فريقه بضربات الجزاء, حيث اللعب على الأقل وجهاً لوجه, بغض النظر عن الجمهور المشترى, والحكم المتحيز, والفريق الخصم المدرب على التمترس أمام المرمى!!.
مرتهنة أنا لشاشة التلفاز, ركلة وراء ركلة, وأملي يتصاعد وصور هذا الفصيل أو ذاك من الجماعات الإرهابية تتوالى أمام عيني وهم يصعدون باصات خزيهم إلى حتفهم, بينما يخرج إلى النور المخطوفون بعد سنين أسر طويلة, وهم يهتفون للوطن, للجيش, ويعلنون بشموخ السوري العصي على الكسر, رغم كل الوجع المرتسم على القسمات, أنهم عائدون إلى البندقية, لتحرير باقي الوطن.
وهي صور تثير إضافة لدموعي, دهشتي, لأن هؤلاء كانوا في حكم الموتى, وكان إذلالهم روتيناً يومياً يمارسه عليهم الإرهابيون, وكان تعذيبهم بديلاً لقهوة الصباح, وحياتهم أشبه بالقبر المفتوح المبطن بالمرايا, يرون فيها أنفسهم كل لحظة مشاريع موت مؤجل, لكنه يبدو محتماً, دون أحبة يحملون على أكفهم, ودون تعازي في صفحات الجرائد, ودون خيام عزاء يتسابق فيها الجميع بذكر محاسن موتاهم, ويبقى السباق سجال!؟.
أراقب الصور فتنعشني, رفاق السلاح يحررون رفاقهم, فأحتضن الشاشة وأبكي, تذكرني بصور مواكب شهدائنا محمولة على أكتاف رفاق البندقية, مغطاة نعوشها بأعلام الوطن, وصور القابضين على السلاح, رغم الصقيع في الأحداق, في “دير الزور, وحلب, وحماة, وحمص, والغوطة, وادلب ..الخ”, وأراهم جلدنا الذي نسكنه, وإرادتنا المتقمصة في لحم ودم, ومنطقتنا السكنية التي نحتمي بها, وجبالنا المنيعة رغم الغدر, الممتدة على مساحة 180 ألف كيلو متر مربع من الأرض, وملايين القلوب السورية.
أراقب الصور, وأشمت بلابسي الطراطير, وقد أهدروا ملياراتهم على الخواء, ملوك قطع اليد وقطع اللسان, وراكبي الجمل عكس التاريخ, أشمت بهم وقد غير جيشنا التاريخ, وحلق وجه خديعتهم, ورش القطران على دشداشاتهم, فتحولوا بين ليلة وضحاها, من “بابا نويل” حامل الهدايا وموزع العطايا, ومانح الألقاب, وممول ثورة “مرملي النساء وميتمي الأطفال”, إلى “مهرجي سيرك” متقاعدين يشترون بالبترول البقاء على العروش بالبترول من أبواب بيوتات السياسة الدولية!؟
أراقب الصور, وأتواعد مثل المحررين, الإرهابيين ورعاتهم: بأن جيشنا أمامهم وخلفهم, وإنهم إن كانوا يريدون النسيان, فنحن لن ننسى, لأن جروحنا منهم وتقيحاتنا, لم تشف وعسير أن تشفى, وأن تقمصهم لدور أمير المؤمنين, واللعب بالورقة الطائفية, هو وهم في عقولهم وحدهم, ولا يمثل السوريين, لأن جميع السوريين يرونهم أقلية خرجت عن طوع الوطن, ونحن الأكثرية, ولذلك من الصعب أن نصدر مرسوماً يجبر الذاكرة على التعطل, وفي كل بوصة من أجسادنا وجسد الوطن, سهماً مسموماً من سهامهم, وقبراً لحبيب كنا ننتظره على الغداء, فتحول الغداء إلى عزاء!!.
أراقب الصور, الإرهابيون يصعدون الباصات إلى قبورهم, وكالمحمومة المجنونة, من خلف شاشة التلفاز أتواعدهم: هل تظنون أنكم ستنجون؟ ذلك وهم محال, لأن قبورنا ستحاربكم, ألا تعرفون أن الثأر وريث الوجع؟ ووجعنا منكم لا تحده الحدود, لأنه رغم أن معظمنا لم يغادر, ولايملك حتى جواز سفر, قد شاهدنا العالم غربه وشرقه متحداً ضدنا, في شظايا سقطت فوق كل المنازل, والشوارع والساحات, وفي أعياد الأمهات,على مدارس وملاعب من نحب, ورأينا وخلف ظهورنا نهاراتكم الخائنة, كيف تزوج الظلام الوطن, وكيف أحترق العش الجميل فجأة, وكيف جلسنا فوق الرماد, نلملم الثوب بالأيدي المقطوعة, فكيف نسمح لمن أجلسونا حزانى, ثكالى, بالرحيل, وعفا الله عما مضى؟ لا عفو عن كفر, هكذا يقول رب العالمين, وما فعلتموه بالوطن وبنا كفر مبين, ونحن بشر, فكيف نعفو؟