عنب دوماني (3)
د. نضال الصالح
بعد أن دفعت ميسون بما نقلت إلى مهيار، وقال: “كلتا الروايتين صحيح، بل هما معاً كما أرجّح”، دفع بدوره إليها بما نقل عن “خطط الشام” قول مؤلفه محمد كرد علي: “ولقد كانت مساجد الغوطة عامرة كلّها إلى دخول العثمانيين، ثمّ أخذت تخرب في عهدهم”، ثمّ بورقة ثانية ممّا نقل عن القلانسي من كتابه “تاريخ دمشق”: “وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال سنة اثنتين وأربعين، وهو مستهلّ نيسان، أظلمَ الجوّ، ونزلَ غيثٌ ساكن، ثم أظلمت الأرض.. ظلاماً شديداً بحيث كان ذلك كالغدرة بين العشائين وبقيت السماء في عين الناظر إليها كصفوَرة الورس وكذلك الجبال وأشجار الغوطة وكل ما ينظر إليه من حيوان وجماد ونبات”. وعندما سألته ميسون، وقد أتمّت تاء نبات، عن معنى كلمة “الغدرة، قال: “الظلمة”، ثمّ سرعان ما غشيت ظلمةٌ عينيه، وكان عاندها عندما كان ينقل عن المؤرّخ ما سبق من القول، فأسند ظهره إلى المكتبة وراءه، وعندما انتبهت ميسون إلى الصفرة التي غزت وجهه، وأنّه على وشك أن يغيب عن الوعي، فيسقط على الأرض، سارعت، ومن دون إرادة منها، إلى الإمساك بكفّ يساره، ووضعت ذراعها الأيمن وراء ظهره، حتى كاد جسدها، بل صدرها الناهد، يلتصق بصدره، وحتى كادت أنفاسها تلهب خلايا وجهه، ولم تكد تنتبه إلى الطلاب والموظفين حولها، حتى أحسّت بأنّ جمراً يغزو خدّيها، فتمنت عليه أن يجلس، ليستعيد بعضاً من دماء الحياة التي جفّت، أو تكاد، فيه.
الغدرة! الظلمة، بل الظلمة الفادحة التي غزت دوما فجر ذلك اليوم من نحو ست سنوات، فأثخنت حياة مهيار، وأسرته، وحيوات أسر كثيرة من أبناء المدينة، بما لم يكن ليخطر في بال أحد يوماً، أو لحظة، وكان من أقسى ظلمات تلك الغدرة ظلمة التهجير من البيوت التي احتضنت طفولتهم، وفتوتهم، وشبابهم، وكهولة الأجداد منهم، ثمّ وجدوا أنفسهم نهباً لتجّار الحرب من مالكي العقارات وأصحاب المكاتب العقارية في دمشق.
كانت جلجلة التهجير حطّت بأسرة مهيار في أعالي المزة ستة وثمانين، وكان على قدميه أن تغوصا في الطين، أيّام الشتاء، ليصل أول نقطة تمكّنه من أن يستقلّ “السرفيس” إلى الجامعة، ولطالما كان ينهمك، وهو في الطريق، بمحاولة إزالة ما علق بحذائه وبنطاله من أثر ذلك، حتى يبدو كما اعتاد، أنيقاً، ولا أثر لما يكابد وأسرته من وطأة تلك الحياة القاسية التي وجدوا أنفسهم في أتونها الباهظ الذي أرهق البلاد والعباد بالدم، والدمار، والأحزان.
وبينما ميسون تطفئ، بل تحاول أن تطفئ، لظى الورد الذي اضطرب في خدّيها، وقعت عيناها على ما لم يستكمل مهيار من قول القلانسي، قرأت: “ثم جاء في أثر ذلك من الرعد القاصف والبرق الخاطف والهدات المزعجة والزحفات المفزعة ما ارتاع لها الشيب والشبان فكيف الولدان والنسوان وقلقت لذلك الخيول في مرابطها وأجفلت من هولها وبقي الأمر على هذه الحال إلى حين وقت العشاء الآخرة ثم سكن ذلك بقدرة الله تعالى”…. (يتبع).