“وجه” البولوني.. مجتمع يُعاني الزّيف والفصام
بعناية ترسم مخرجة الفيلم تفاصيل عملها؛ إذ رغم أنها ثانوية إلا أن كل منها يشكل رافعة لعمل يمكن له المنافسة على الجوائز، فيلم يعري مجتمعاً بأكمله وربما الأمر ينسحب على العديد من المجتمعات أو هو إعلان “لا قدرة على قبول الاختلاف”.
مشهد البداية يعرض لحشد كبير من أهل القرية البولونية القريبة من الحدود الألمانية، يتجمهرون أمام متجر لبيع الأجهزة الكهربائية، رفع على الواجهة لافتة بعنوان مثير “عرض الملابس الداخلية” وما إن تفتح أبواب المكان حتى يبدأ التدافع بينما الجميع يخلع ملابسه قطعة إثر قطعة، لا يوفر حتى أصغرها، مما يثير الاستغراب إذ ليس الجمهور من الفقراء والمحتاجين، وليس العرض للحصول على طعام أو ملابس، جهد سيعود منه “ياشك” وقد فاز بشاشة تلفزيونية كبيرة وياشك شاب محب للحياة عصري يسمع الموسيقا الحديثة ويعشق حبيبته ويود الارتباط بها.
في مكان آخر واحتفال من نوع آخر في الكنيسة؛ إذ هي ليلة الميلاد بينما “ياشك” يخضع لنصائح البعض بالتغيير، وقص شعره الطويل والظهور بمظهر الرجل الطبيعي “مثل الآخرين” وهي أمنية أمه التي تطالبه بالعمل على تكوين أسرة “كما بقية شباب القرية” بينما شقيقته تقول له وكأنما تبحث عن حريتها في حريته: “ارحل عن هذا المكان” إذ ترى أن عليه العيش حراً كما يرغب هو.
ولأنه شخص طيب ومحب سوف يخطب الفتاة التي يعشق ويعيد ترتيب نفسه ويعمل على إرضاء “جمهور كان تدافع وتخلى عما يستر عريه لأجل قطعة كهربائية بسعر مخفّض” فيساهم في بناء شاهد ديني ضخم يرفع على ارتفاع شاهق ينافس نظيره في ريو دي جانيرو ويضع البلد على الخارطة السياحية الدولية.
لقاء الأمر سيدفع جاك ثمناً باهظاً من حياته، حيث يقع من أعلى البناء العالي ويصاب بالعديد من التشوهات أشدها في الوجه الذي تهشم، الأمر الذي سيخضعه لعملية زراعة وجه هي الأولى من نوعها، سيحافظ على حياته لكنه سيبقى مشوهاً بحاجة للكثير من العمليات الجراحية تساعده على التحكم بعملية الأكل والشراب والتحدث بطريقة مفهومة.
هكذا تنقلب حياة الأسرة رأساً على عقب، ويخيم الصمت المريب والتوتر على سهرات كانت تضج بالضحك والمرح والقهقهة والنكات البذيئة، لتحل مكانها همسات ونظرات مختلسة باتجاه الوجه القبيح، وتأفف من القادم من التبعات “من سيتكفل بإعادة شيء من الآدمية إلى وجه هذا المسخ الذي يشاركنا المائدة” ستتخلى عنه خطيبته ويبتعد عنه الجميع يملؤهم النفور أو السخرية من الشاب وقد بدا مرحاً قادراً على التأقلم مع وجهه الجديد، الجميع عدا شقيقته التي باتت أكثر التصاقاً به “لعله نوع من حماية الذات متمثلة به”.
يمكن التأقلم مع هذا الوضع لولا أن الأمر لن يكون ضمن اهتمامات المؤسسات الحكومية التي رفضت تقديم المساعدات لإتمام عملية الشفاء، ما يضطره للجوء إلى جمع التبرعات التي يمتنع أهل القرية عن تقديمها “هم ذاتهم المؤمنون الذين يجلسون بخشوع أمام رجل الدين بعيون دامعة؛ بينما يتم ترتيل كلام الله بطريقة مؤثرة” سيمتنعون عن التبرع إثر الإيحاء أن شيطاناً وروحاً شريرة باتت تسكن “ياشك” ولا بد من العمل على إخراجها” الفكرة المختلف عليها يمكن أن تتشاركها مجتمعات كثيرة على اختلاف البيئات والانتماءات والمعتقدات الدينية”.
لن يجد ياشك في النهاية حلاً سوى القبول بالعمل في بعض الإعلانات التلفزيونية التي تروج للسلع الاستهلاكية، ليصبح نجماً يتسابق الناس بدافع هوس الشهرة والمشاهير, للاقتراب منه والتقاط صورة إلى جانبه أو الحصول على توقيعه، بينما هو يرجو تعاطف من نوع آخر.
في النهاية وخلال لقاء مع شقيقته وقد بات نجماً تدار حول نجاحه الحوارات، يسألها مقدم البرنامج عن رد فعل الناس تجاه ما حدث معه فتجيب بإصرار “لا وقت للتفكير في الأمر” يتابعها ياشك بتأثر وقد حزم أمره، سيرحل في صباح اليوم التالي، يدفعه اليأس، فلا مستقبل له في مجتمع مزيف يرفض الاختلاف.
كوميديا سوداء وكم كبير من التناقضات قدمتها “شوموفيسكا” صانعة العمل، سمة للمجتمعات التي تخلت عن إنسانيتها وكأنما وجه “ياشك” الجديد هو صورة مجتمعات بأكملها وقد خلعت عنها الأقنعة.
بشرى الحكيم