ثقافةصحيفة البعث

مواسم الهجرة

لم يكن بالأمر اليسير عليهم أن يرموا كل شيء وكل ما يملكون من تاريخ وذكريات وراء ظهر قلبهم المكسور، ويغسلوا ذاكرتهم بكل ما أوتوا من قهر وخراب وجراح ويمضوا هائمين على وجوههم وما من مطلب سوى الأمن والأمان فقط في أي بقعة من هذا العالم العجائبي بأحداثه.. على ما يبدو كان ذنبهم كبير جدا كونهم من حلب أبو فراس الحمداني وإبراهيم هنانو.. حلب الكبرياء والعزة، فدفعوا فاتورة صمودهم عاليا خلال سنوات الشؤم السبع على أيدي هؤلاء القتلة.

نعم هم أبناء عزّ ولم يعتادوا الذل والقلّة، وهم أصحاب بيوت كرم على مر الأزمان.. اختارتهم اللاذقية وأهلها قبل أن يختاروها فتحت لهم قلبها قبل أن تفتح أبوابها وبيوتها.. سخرت لهم محلاتها التجارية وأسواقها ليصبحوا بلا منازع هم أصحاب الدار.. تعايشوا معنا بسرعة هائلة، كيف لا وهم كما أظن لأمثال أرواحهم الندية العذبة خلقت الحياة.. اتفقنا على الحياة سويا بلا أي موعد أو اتفاق.. كل شيء كان يسير بهدوء وعلى ما يرام كيف لا أحد يعلم إلا هم والله..!

غص البحر والجبل والسهل بأبناء حلب، وبكامل رضانا تقاسمنا معهم الحب والفرح والحزن والانتصارات والهزائم.. ولم يفسد اختلاف الرأي بعض الأحيان لودنا قضية.. كان حب الوطن والوضع الراهن يجمعنا فنتفق على وجعنا وخلاصنا مما نحن فيه بلا أي خلاف.. تناسبنا فيما بيننا فزهر الليمون طرح ثماره بدارهم والفستق الحلبي أعطى أهل البحر أجود الأنواع.. علمناهم كيف يصطادون السمك لا أكله فقط.. وهم علمونا من أين تؤكل الكتف بمهارة معجونة بمرونة تسهل على المرء الحياة فتصبح أقل قساوة ولؤماً.. صدقاً أصبحوا هم أهل الدار ونحن الزائرون..

تقول لي جارتي الستينية هذا الصباح وعيناها على حافة الدمع بلهجتها الحلبية المحببة على مسمعي وقلبي (اشو خيتو قال سكة حلب ما عادت مقطوعة) وغصت بالبكاء.. صمتت فصمت أنا أيضا علّ اللغة تسعفني ببعض الكلمات، لكن لغتي وضحكتي ونظراتي خذلوني ولم يسعفني سوى دمعي.. أخبرني حفيدها بصوت ضعيف بأن جدته لا ترغب بالعودة إلى حلب، لقد أحبت اللاذقية وأهلها ومازالت تخاف من العودة إلى هناك..

صديقتي بنان العذبة الجميلة مدرّسة الشريعة تشكر الله كل يوم ممتنة لأسباب قدومها إلى اللاذقية، وكحلت قلبها بأهلها الطيبين كما تقول.. وكنت قد أكدت لها أكثر من مرة بأن أهل اللاذقية ليسوا ملائكة لكنهم طيبون وأصيلون كشجرة الليمون فلا خوف منهم ولا من يحزنون..

وها أنا أجلس كل يوم إلى شرفة بيتي أراقب كيف تفرغ المدينة من أهلنا الحلبيين بغصة قلب ينتزع منه حنينه.. أجلس بلا أي حيلة.. قلبي يعد للعشرة ويطرح الزائد.. والصفر هو ناتج كل عملياته الحسابية، حيث تتساوى الأشياء والأوقات والخاسر الوحيد نحن بما يخص ما آلت إليه الأحوال..

تحت ذات القمر نسهر ونفرح ونبكي.. تحت ذات الشمس نستيقظ ونعمل ونربح ونخسر.. وكلانا بذات الرصاص الغادر نموت.. وذات التربة تسترنا لأبد الآبدين.. يا أم محمد ويا أم علي ويا أم عيسى ووويا شعب سوريا العظيم..!

بعد عدة صباحات اختفت جارتي أم محمد والكثير من الجارات الحلبيات.. “راحوا وقلبي معاهون راح”.. وفعلا سكة حلب لم تعد مقطوعة يا أم محمد..عودوا بأمان الله..

لينا أحمد نبيعة