ثقافةصحيفة البعث

(رحيق احتضار) وانكسار الحلم في رحلة البحث عن المعرفة

يبدأ الشاعر غسان كامل ونوس مجموعته الشعرية (رحيق احتضار) من لحظة السؤال المحمول على رعشة النداء الذي بدأ به مسبوقا بعنوان فرعي (بدلا من إهداء) “إلى من تنادي؟!/ أصوتك أم حشرجات؟!/ أبوحك أم هلوسات الحنين” ص5.

بالتأكيد بقدر ما هذا النداء موجه للإنسان، فإنه موجه للذات الشاعرة لأنها هي المعنية أساسا بالنداء، وهذا النداء بمثابة جرس إنذار ليبقى الإنسان يقظا، ولا يغفل لحظة عن روحه الإنسانية. لكن كحال جميع الشعراء الرومانسيين والصوفيين الذين يعانون الاغتراب، وأحلامهم دائما منكسرة، فإننا نلمس هذا الخلل في النهاية الفجائعية: “إلى من تروح الحكايات/ تهذي؟!/ فهل بعد من سامعين/ وهل من رواة؟!/”. إنها الثقة المتزعزعة والمهزوزة وإن الإنسان لن يجد أمامه سوى العقم والخراب.

أيضا يتكرر هذا النداء المحمول على وجع السؤال والموجه للإنسان في قصيدة (منارة) “ماذا تخبئ في لهاثك/ أيها المشغول بالوقت/ الملظى؟!/ ماذا عن الوقع المدمى/ من رحيق؟!”. إنه السؤال الموجه للإنسان في رحلة معاناته الأبدية في الحياة، في طموحاته وإحباطاته، في انتصاراته وانكساراته، لكن الشاعر يعود ويخاطب نفسه بعد أن انكسرت أحلامه:” ونوافذ الأفق التي فتحتها/ نفرت/إلى واد/ حريق/. بالرغم من أنه لم يقترف ذنبا كما يقول: “أنا ما رجمت المعبد المسحور/ بالخطو الشهي/ أنا ما رميت البئر/لم أشرب على ظمأ/ بأسباب العكارة/.

هو لم يقترف ذنبا، ولم ينتهك المحرمات كما يدعي لتنكسر أحلامه، لكننا سنكتشف أن سبب انكسار أحلامه يرجع إلى سعيه الدائم وراء المعرفة ومحاولة الاقتراب منها، وهذا يتضح في زلة اللسان اللاواعية التي نطق بها في نهاية القصيدة: “ما زلت في سري/ أراهن قامتي/وذؤابتي/ في المرصد المهجور/ أطياف المنارة”. هذا هو الجواب الذي يشي بالانكسار الدائم. هو في رحلته الصوفية يدق أبواب المحرمات، وخلال هذه الرحلة يتوهم أنه وصل، لكنه للأسف بقي بعيدا ولم يصل: “كان الصباح الذي قد تبدى/ على شاطئ من هلام/ يؤوب في وقعه المستدام/ بلا لثغة أو نشيد ص27”. إن ما يراه ليس صباحا بل غشاوة كاذبة خادعة. والسبب يكمن في قوله: “كأني تجاوزت قدر الأماني: رغبت/ تماهيت في الومض/ألقيت في النبض/ سنارة لا تنام ص30”.

يبدو أن السبب في عدم الوصول يرجع إلى عدم الاستعداد للرحلة الصوفية: “كأني بلا أضحيات/عبرت/ كأن تشفى بنسغي”. ونجده أيضا في قصيدة (بخور المساء ص76) لم يزل على الأبواب، وعلى العتبات، لم يدخل لأنه لم يصل بعد، لكنه يتوهم الوصول، ويتجسد ذلك في تكرار كلمة كأني: “توارت/ كأن النهار تولى/ كأني تماديت في الحلم/ ثم اهتديت.” لذلك أعلن توبته عن هذا البحث والسعي وراء المستحيل، كما في قصيدة (توبة ص111): “مر صهيل الوقت/لامتني المواويل السخية/ والفصول/ وأنا على بر الندامة مولع بالجري ضد الريح/.”  لكن يبدو أن هذه التوبة مترددة وغير نهائية، لأنه مولع بالجري ضد الريح، لأن وسواس المعرفة ما زال يسكنه: “فهل أرضى/ وما زالت عصافير الحكاية/ تشحذ المجذاف/ ما زالت تعاويذ السلامة /والرضا/ تهمني/ فهل آن الرجوع؟!/.”

لكن يبدو أن هذا الرجوع مستحيل، لأن هناك شيئا ما بعيدا ما زال يغريه، ويناديه إليه: “لكأن لي قربي إليك/ أو سرة/ وكان لي ركنا/ ببابك/ أو مقاما في يديك/ وكان بي توقا/ لألقى من جمارك/ ما تريد ص121”.

من الضروري معرفة أن المقبوس السابق من قصيدة بعنوان (بلوى!)، أليس في هذا العنوان دلالة على مرضه في البحث وراء المستحيل، خصوصا وهو يخاطب الذات الإلهية. وفي هذه الرحلة الصوفية يتوهم أنه وصل، ويتمثل هذا الوهم في تكرار مفردة (كان) وهو يكتشف أنه مازال بعيدا.

ما يميز مجموعة (رحيق احتضار) للشاعر غسان كامل ونوس، هذا التوق لرحلة المعرفة بالرغم من أنها رحلة شاقة وعسيرة. وما يدل على أنه في رحلة استخدامه لمفردات تدل على الرحلة، مثل: السفين/ القارب/ الربان/المجذاف/ المرساة /الشراع/. وعند التدقيق في هذه المفردات نكتشف أنها تخص البحر، وجميعها تدور حول السفين الذي يشق عباب البحر. والسفين في الفكر الصوفي تعني النجاة. إذن هو يبحث عن النجاة:

“أومأت للربان حين أطل من برج/ بحجم الكون انفتحت/ وغاب ص10”.

أومأ للربان هنا، يعني انه أعطاه الإشارة للمضي في رحلته. وبالتأكيد الربان هنا ليس سوى الشاعر نفسه الذي يتابع: “أومأت للربان/أن يمضي/ ولا أمضي/ فسري ها هنا/ أو اكتفي/ أن اقتفي/ ظل السحاب ص5”.  نلمس هنا تردد الذات الشاعرة في متابعة الرحلة، لكن يكون الحسم في المتابعة لأن الهدف “أن اقتفي ظل السحاب.” لأن الشاعر الصوفي لا يقنع بالراهن والمؤقت، طموحه اكتشاف البعيد والمجهول الذي قد يبدو للآخرين عصيا ومحرما.

لكن يبقى شيء يعيق الرحلة: “أهذي بالوجع المسنون/ مجنون الرعشة/ والقارب في ناي/ ورحيق الرغبة/ في الدن المخبوء / يفيض ص56”. أليست هذه المكابدة للوصول؟ لكن تكمن المشكلة بين هذا القارب الذي يعني الجسد، الذي يكبل، وبين الرغبة التي في الدن المخبوء، والتي تعني الروح التواقة وقد فاضت وتريد الانعتاق.

وبالرغم من إعلانه للتوبة في قصيدة (توبة111): “وأنا على بر الندامة/ مولع بالجري ضد الريح/… فهل أرضى/ وما زالت عصافير الحكاية/ تشحذ المجداف/ ما زالت تعاويذ السلامة/ والرضا/ تهمي/ فهل آن الرجوع؟!”. إذن لا للتوبة، لأنه يريد الحكاية التي لم يفك طلاسمها بعد. ولأنه ليس كغيره: “كم راكب/ مل الجواب؟! كم ناعب/ كره اقتراف/ قراءة الدعوات/ في إذن الحكاية ص112”. هي الحكاية التي تكسرت مجاديف الغير وسفنهم على أبوابها، لكنه يصر على الوصول إليها ومعرفتها.

في قصيدة (رحيق احتضار ص99) تلخيص لا واعٍ للمكابدة الصوفية: “وحيدا/ألم الفتات/ تناثر من كوكب حائر/ في المدار/وحين/ أعد الضحايا/ تصارع في المعبر المستحيل.. كأني أعرف هذا الصدى/وهذا المدى خضته ذات حين ص101”. لقد تشابهت عليه الأشياء في رحلته الدائمة، كأنه كان هنا مرة. هو الدوران في دائرة مفرغة، واكتمال الدائرة فكرة صوفية، لكن الدائرة لديه لم تكتمل وهذا يعني أنه لم يصل.

أما قصيدة (وتر ص132) الرائعة والفريدة في بستان الشعر العربي، تضمر الكثير وتشي بالكثير: “أنا في رحيق الجمر/موال من الأحداق/ شاردة/ وهجس مدمن/ الوخز العتيق”. بالتأكيد الوتر هنا يعني الإنسان، إنه الشاعر نفسه وهذا الوسواس الطامح للبعيد: أنا جرعة مبثوثة للواقفين/على رذاذ الحلم/كي يصحو/ أنا في بياض عابث بالوقت/ شاخصة تهم إلى الرحيل”.

إلى الآن لم أعثر على جملة شعرية بهذا الجمال والاختزال، واللغة الرهيفة العميقة، وهذا التعبير عن زوال الإنسان، هذا الوتر المفرد بجملة “شاخصة تهم إلى الرحيل” من هو إنسان هش منكسر وفان ليس له سوى المعاناة ياوتراً تعمد بالأنين”.

عماد فياض