ثقافةصحيفة البعث

“ساتياغراها” الملح هزمتْ إمبراطوريّة تشرشل

 

 

هل يمكن لحديثٍ عن الملح، أن يشكّلَ عصبَ مادّةٍ ثقافيّة، بعيدة عن الجفاف؟. للمتشكّك أقول: تعال إذن لنتمالحَ قليلاً، ونذرو بعض نثرات هذا المعدن البهيّ على مائدة الكلمات، المعدن الذي ضاهتْ قيمته يوماً قيمة الذهب الأصفر والأسود.
هل رأيتَ إلى الصّوديوم بقهقهته العالية وهو يتعانق مع غاز الكلورين السّام ليهبنا “ملح الطعام” نزيّن به موائدنا، وننكّه مذاقاتنا بطعومٍ لا تنسى؟ هل رأيت إلى المزيج المرح “كلوريد الصّوديوم” كيف بغرغراتٍ ناعمة منه، نكفلُ صحّة ومناعة جهازينا الهضمي والتّنفسي؟ وبلمسةٍ ساحرة من وهجه نرممَ جروحنا؟. في الحقيقة، لولا الصّوديوم الذي لا يستطيع الجسم توليده، لم نستطعْ الاستفادة من الأوكسجين أو نقل الشّارات العصبيّة، أو تحريك العضلات، بما في ذلك عضلة القلب، فكثيراً ماعُقدتْ المواثيق بين المتحاربين، بالملح وخُتمتْ به معاهدات المودّة وحسن الجوار. وقد درج المثل المعروف “من يمالحنا يصبح شريكاً لنا في الأخوّة” لدرجة أنّ أعرافنا تستنكر كيف يخون الإنسان الخبز والملح ويتنكّر للناس وقد تمالح وإيّاهم بالطعام والكلام.
ثمّة قصّة فولكلوريّة فرنسيّة طريفة تتحدّث عن أميرة أعلنتْ لأبيها الملك أنّها تحبّه “كالملح” ولم يستسغْ الأبُ طعم عبارتها الجافّة هذه في البدء، فأمر بإخراجها من مملكته. ولاحقاً، حُرم الملك من الملح، فأدرك مدى محبّتها له. اعتبره العبرانيون القدماء، رمزاً للعهد بين الله وبني إسرائيل. ففي التّوراة، يرد في سفر المدوّنات أنّ “إله إسرائيل أعطى تلك المملكة لداوود، ولأبنائه من بعده، وإلى الأبد، بميثاق الملح” ويعتقد المسلمون أيضاً بأنّه يقي من العين الشريرة.
منذ آلاف السّنين مثّل الملح الثروة، احتفظ به تجّار جزر الكاريبي في مخابئ تحت منازلهم وفرضت الحكومات الصينية والفرنسية والفيتنامية، الضّرائب عليه لتمويل الحروب. وأحياناً دُفعتْ رواتبُ الجند ملحاً. وكثيراً ما استخدمت المادة البيضاء نقوداً.
في القرن السابع عشر، بدا حديث القادة البريطانيين عن خطورة الاعتماد على الملح الفرنسي البحري، مضحكاً في أعين أقرانهم، بمثل ما يبدو اليوم مضحكاً لنا، كلام بعض القادة المعاصرين عن خطورة الاعتماد على النفط المستورد.
في بعض مناطق السّويد أُضيفَ إلى “ثريد الحلم” أو الفطائر، ملحاً كثيراً. حيث قضتْ العادات أن تتناول الفتاة ذلك الطعام المملّح، من دون أيّ شراب، قبل ذهابها إلى النّوم، لكي ترى عريسها المقبل في حلمها وهو يعطيها الماء لترتوي به. وللأسف لا تتوافر إحصاءات عن عدد الفتيات اللواتي وفّقن في استخدام هذا النظام للبحث عن العرسان.
في 1066م ابتكر الصّينيون البارود الذي يمثّل أحد أوّل استخدامات الملح في الصناعة. وفي القرن الثاني عشر أخفقتْ الحملات الصليبيّة مراراً في صراعها مع المقاتلين العرب، الذين كانوا قد شرعوا في تعلّم أسرار المسحوق الصيني العجيب.
في عام 1884 توجّه ضابط أمريكي اسمه “دبليو أف لينش” مع بعثة إلى البحر الميت الشّديد الملوحة. وعثر على عمود هاوٍ من الجبل. فاعتقد كما كان يظنّ الجميع حول سرديّة دمار “سدوم وعمورة” بأنّه تمثال زوجة لوط التي تحوّلتْ إلى عمود بمجرّد أن نظرتْ وراءها، فحلّل عيّنةً منه ليكتشف بأنّها من “كلوريد الصوديوم الصّافي” واعتبر ذلك تفسيراً كافياً لطبيعة الجبل وهويّة التّمثال.
في القرون الوسطى وعصر النهضة زيّنتْ الموائد الملكيّة الفرنسيّة بممالح ضخمة على هيئة سفن، حيث مثّل الملح رمزاً للصّحّة، فصحّة الحاكم ضمان لاستقرار الأمة، وكان وضع الملح على الطاولة من مظاهر الغنى، وقد آمن فرنسيّو القرون الوسطى، مثل الصينيين، بأنّ مجرد وجود المرأة يفسد التمليح والتّخمير، لخصوصيّة وظيفتها الفيزيولوجيّة.
في عام 1930 أصبحت “أوريسا” الهنديّة على شفا ثورة وشيكة. قادها رجل ستينيّ يتوكأ على عصا اسمه “غاندي” صاحب نظريّات غريبة في الجنس والأكل والجسد. لقّبه شاعر الهند الكبير “طاغور” بـ”المهاتما” أيّ الرّوح العظيمة: “روح عظيمة بهيئة شحّاذ”. التزم سياسة اللّاعنف خلال ممارسة العصيان المدني. التي لا تعني برأيه “المقاومة السّلبيّة” قائلاً بأنّه يسعى من خلالها، لـ: “تجريد خصمه من الخطأ”. وأطلق على حركته الـ”ساتيا غراها الملح” وتعني قوة الحقيقة. مبيّناً أنّها ستُعطي مثالاً قوياً على سوء الحكم البريطاني في موضوع يلامس حياة كلّ الشرائح الاجتماعيّة الهنديّة. ثمّ خرج مع 78 من معاونيه تحت الشّمس الحارقة، معتزمين بدء مسيرة طويلةٍ على الأقدام، لمسافة 520 كلم للوصول إلى البحر عند “داندي”. وبعد 25 يوماً من المشي وصلتْ مجموعته التي تخطّتْ الآلاف، وخلال الليل ترأّس صلاة على وقع أمواج بحر العرب. ومع خيوط الفجر قاد مجموعته للتّطهّر بماء البحر، وخرج إلى حيث تراكمتْ قشرة من الملح تكوّنت بفعل التّبخّر، ثم انحنى والتقط قبضة من تلك القشرة، كاسراً قانون الحظر البريطاني، وبعد أسبوع من وصوله الاحتفاليّ إلى السّاحل صارت حركة غاندي وطنيّة شاملة. غطّت الصّحف الغربيّة الحملة، وتعاطف العالم معها. ثمّ أعلن أنّه سينظّم مسيرات إلى ورش الملح الحكوميّة ليستولي عليها باسم الشّعب، فاعتقلته السّلطات البريطانيّة. تفجّرت الهند كلّها غضباً، وسجن 100 ألف محتج، من ضمنهم القادة البارزون.حاولت الحكومة التّفاوض مع المسجونين. ما دفع “ونستون تشرشل” للاحتجاج بقوله: “إنّ حكومة الهند سجنت غاندي، ثمّ وقفتْ عند باب زنزانته ترجوه مساعدتها على تخطّي الصّعاب”. في عام 1931م وقّعتْ الهند معاهدة “إيرون غاندي” التي أنهتْ حملة الملح وسُمح للهنود القاطنين على الساحل باستخراج الملح لأغراضهم الشّخصيّة. وأطلق سراح القادة المسجونين. وأوقف العصيان المدني كلّه. ثمّ نالتْ الهند استقلالها 1947، لتبدأ الثّورة بعدها كشأن كلّ ثورات التّاريخ، بأكل أبنائها وقادتها، حيثُ “اغتيلَ غاندي بعد ذلك بخمسة أشهر” على يد هندوسيّ اتّهمه بالجنوح إلى السّلم مع المسلمين وأنّه يسعى لوضع خطة ترمي إلى تسييدهم على البلاد.
أوس أحمد أسعد