ثقافةصحيفة البعث

الفــــن مـــــــرآة الحيــــاة وميــــــدان الأسئلــــــة المبدعــــــة

 

يعرف د. علي سليمان بمسيرته الفنية الطويلة والمتنوعة، ويعد أحد شواهد المشهد التشكيلي السوري بما يمثله من أفكار وأطروحات تعالج قضايا الفن والمجتمع، وأحد المشتغلين بفن التصوير بمفهوم الحداثة التشكيلية والتي تحمل طابع الخصوصية والبحث، وقد رافقت تجربته العديد من الكتابات النقدية والصحفية والتحولات مرورا بمراحل الدراسة والشباب وما عالجت من مواضيع، وصولا إلى برلين وأوروبا حيث العروض التشكيلية الخاصة هناك، إلى مرحلة التدريس الجامعي والمشاركة في تأسيس الأكاديميات المختصة في الفن سواء في سورية أو الدول العربية المجاورة، وقد اتسعت مساحة التأثير المعرفي الطامح إلى تصورات تخص المجتمع والإنسان، لكن يبقى الشغل الشاغل هو إنتاج اللوحة التي تحمل ذلك المفهوم الذي يؤمن به علي سليمان ويسعى إليه بأسئلة المعرفة والجمال المبدعة، وفي المعرض الأخير الذي افتتح في صالة فاتح المدرس مؤخراً، قدم الفنان فهماً مختلفاً عما يعرض هذه الأثناء في المشهد التشكيلي وصالات العرض، فقد اشتغل على موضوع الفكرة وموضع الرأس في الجسد، في خطاب تلميحي يضع المتلقي أمام مواجهة صعبة من الاحتمالات والحيرة البليغة عن مقاصد الفنان العصية عن المباشرة، وعن متطلبات الذوق الساذج الذي يسعى إلى لوحة سطحية تخاطب الصورة المباشرة والمسطحة عن الأشياء والمعنى.
وجدير بالذكر أن لهذا الفنان حصيلة واسعة من الكتابات المرافقة لتجربته قد جمعها في كتابه البيبلوغرافي الضخم، حيث يمكن أن نوجز بعض ما كتب فيه عن هذه التجربة الواسعة والجديرة بالمراجعة والاهتمام، فقد كتب عنه الناقد الشاعر الراحل زهير غانم يوما: “شغله يتأرجح بين التعبيرية والتجريدية، في مسعى إلى ترسيخ الجماليات وترهيف تذوقها ودفع المشاهد إلى الحيرة فيما يرى، حيث هذا النص التشكيلي مقلق ومتسائل وباحث عن وجوده الأثيري أكثر مما هو محدد ومنمط وارتجاعي أو اقتراني.
يمتلك نسيجه الخاص في نصه التشكيلي من حيث الإبداع ومن حيث التقنية، وهو لم يصل إلى ذلك إلا بمشقات كثيرة فهو يتقدم دائما في سويته الفنية ولا يساوم عليها، ولا ينحدر بها إلى سوق التشكيل كي لا تتهافت أو تتداعى، إنما من يطلع على أعماله سيرى كم هي نظيفة خالصة مصفاة من الشوائب مشغولة بنفسها ولنفسها، وكأنما للنخبة وليس للناس العاديين خارج حيز الاستهلاك، إنه يمتلك سيرورة غائرة في سديم اللوحات متعلقة في حناياها وهي تلتف على عناصر هذه اللوحات كأنما تلتف على كنوز غارقة في الثقافة والتاريخ.
في معالجته للجسد أو الموديل يحوله إلى كتلة مبهمة حجرية أو إلى أثير مائي ضوئي يظل محتفظاً بمشروعية تحضير هذا الجسد الحي الذي يختزن مواته ويختزن جثته، لكن الفنان يخرجه من هذه النهاية أو الدلالة الراعبة ليجعله نابضاً بالحياة ويضفي على سكينته المهابة اللائقة به كنموذج حيوي للكينونة وضرورة سيرة عاشقة للوجود.
لوحته تُقرأ بوجهات نظر وزوايا عديدة، فكل من يشاهدها يجد فيها شيئاً منه وكأنها توزع نفسها بعدالة على الجميع حتى لو وهبتهم القليل من الرؤيا، إنما يظل مخزونها غنياً غير قابل للنفاق من القيم الجمالية الراسخة، تستمر في الوجود والحياة وكذلك النص التشكيلي المبني على جوهرية هذه القيم وليس على أعراضها، يظل حاضراً متماهياً قائما بذاته ولذاته”.
وفي حوار سابق للفنان يعتبر الفن لغة عالمية علينا أن نفهمها ونتعلم فهمها، وفي جانب آخر يخص الأسلوب يقول: الجسم الذي يتغير مع الزمن والخلايا تتجدد وإن العقل يتغير بطبيعة الأحداث والمعطيات المستجدة، وهذا يفرض بالتالي تغيراً في الجانب الثقافي، فمع تقدم الفنان في عمليات البحث التشكيلي تتجدد وتتوالد لديه قضايا تشكيلية، ويطرح على اللوحة في كل زمن ما يلائمه فكرياً وتقنياً، بما يقدم صورة تطوره الجمالية مع مرور التجارب والزمن وهذا هو الأسلوب.
وقد عرّفه أحدهم ذات يوم بالقول: يحاول أن يمنع الدمار والفوضى من الوصول إلى القلب فتظهر ألوانه رهفة ومحددة من أقصاه إلى أقصاه، ومن فوضاه وعتمة واقعه إلى خصوبة ناظريه، لأنه يحس العالم كله لوحته لا بد من إعادة تشكيلها حتى تبدو الحياة والعالم والإنسان أكثر خصوبة وانفعالاً أو حباً.
هذا هو الفنان المتجدد الذي يملك قلقاً مختلفاً ومبدعاً تجاه الخلق الفني وتجاربه التشكيلية المتنوعة، وقد أوجز الناقد راتب الغوثاني ذات يوم حول هذه التجربة: “إن عملية الخلق الفني عند سليمان ليست سوى عملية تنقيب وكشف عن الجدية في الأسلوب وفي الطرح وفي الرد، وهذا يتطلب من الفنان استخدام أقصى طاقاته في هذا الجانب ليصير عنده مثل السفر ومثل الرواية والحكاية، وحبكة لغوية تقدم على التضامن السلس بين القوى المتضادة.. قوى إيقاع الموسيقى وقوى السكون والمساحات الصامتة، فالتصور هنا دعوة لفتح العيون وللتنبيه إلى الحياة السرية للأشياء والأماكن والناس، وإشارات إلى الروابط بين هذه جميعاً فهو عالم مرئي بالقلب والروح، تتحول الأشياء عند الفنان إلى معانٍ مجازية جديدة لقصيدة الحياة هي اللوحة وبصيرة اللون بحراً من الحب”.
أكسم طلاع