ولــّى عصر الهيمنة
باتت جلسات مجلس الأمن الدولي مادة يومية مشوّقة تتناقلها وسائل الإعلام كافة على اختلاف أنواعها، وخاصة من خلال النقل المرئي والصوتي الفوري “Live”، وبكل ما ينطوي عليه من مفارقات، ويتخلله من همسات وتسريبات وتمريرات جانبية ومتبادلة، ومن أسلوبيات خاصة بمندوبي الدول لجهة سماعهم أو الاستماع إليهم أو توجّههم بالحديث أو طرق إلقائهم.
ورغم أن مثل هذه المشهدية تعكس نوعاً من الشفافية الآخذة بالاتساع على مستوى صناعة القرار العالمي، وأن من شأنها توسيع هوامش دمقرطة هذا القرار، بالتدريج، ومن خلال ذلك “التماس” المباشر – الإجباري وشبه الصدامي – مع الرأي العام المحلي – للدولة موضوع النقاش – والعالمي، إلا أنها مشهدية تفضح، بالمقابل، واقع التكالب والإزدواجية والتناقض والاستقواء الذي يحكم مواقف ومسلكيات البعض من الدول الأعضاء، وتعرّي حقيقة الخلل القائم الذي يهيمن على نظام العلاقات الدولية بصيغته الراهنة، وبكل ما ينطوي عليه ذلك من نتائج واحتمالات خطيرة، أقلها انتهاك روح وفحوى ميثاق الأمم المتحدة، والضرب عرض الحائط بمبادئ ومقاصد القانون الدولي، واستخدام المنظمة الدولية ومؤسساتها – في مراحل لاحقة – كأدوات لتثبيت وتأبيد الهيمنة الغربية، ومن ثم التشجيع على استخدام العنف، بل والترويج للإرهاب تحت شعارات ومسميات برّاقة، من مثل الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وذلك في إطار بروباغندا منظمة أقل ما يقال فيها إنها تخريص ودجل ونفاق.
جانب من هذه المشهدية نتابعه هذه الأيام – والأسابيع – حيال الوطن السوري، الذي بات يشغل، غالب الأحيان، مساحات واسعة – نهارية وليلية – من التغطيات التلفزيونية، ليتكرّر المشهد المقرف لفرسان الكذب (الأمريكية والبريطانية والفرنسي) وهم يحوّلون قاعة مجلس الأمن إلى مسرح في الهواء الطلق للتخرّصات والتهويلات الأطلسية والاستعمارية الجديدة. لا عَرق يتصبّب، ولا علامة على خجل، ولا أدنى شعور بالعار أو الخزي أو التردد.. كائنات كأنها من فضاء خارجي تلفّحت شحوب الموت، وتمترست وراء إسكات الضمير، واحترفت التمويت البطيء، وامتهنت تحرير رخص القتل سريعاً، وعلى نحو دوري ومتسلسل. لا هم لعذابات السوريين، ولا لتطاول سنوات الحرب، ولا للدمار أو للخراب، فما يهم هو اللحاق بتغريدات ترامب، وتدوير تناقضاته، وتفكيك شيفرة جنونه، ومداواة العجرفة الاستعمارية الأمريكية الجريحة وجشع قوتها المتآكلة، والاستمرار بخلق فرص ومناسبات النهب المالي والاقتصادي لمشيخات وممالك وإمعات بترودولارية، وبما يمكن من تشغيل آلة الحرب الامبريالية إلى ما لا نهاية.
يتحوّل مجلس الأمن بالتدريج إلى قاعة محاكمة علنية لقوى السيطرة والتفرّد، وتتدرج جلساته إلى مرافعات قوية في وجه الاستبداد العالمي، الذي تتحالف واشنطن ولندن وباريس على أمل إدامته وتأبيده. ولكن الواضح أيضاً أن إيديولوجيا الهيمنة تفقد آخر ما تبقى لها من منصات ومعاقل سياسية، وتخسر آخر ما تبقى لها من غلالة أخلاقية، وأنها تواجه اليوم مأزقاً تاريخياً باعتبارها قوة رجعية تستند إلى تحالف مالي غير مسبوق من الأوليغارشيات العائلية الممتدة من الأسر الخليجية الحاكمة في السعودية وقطر والإمارات إلى عائلات بوش وكلينتون وترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، ولوبيات المصالح التي تقود الدولة العميقة في كل من بريطانيا وفرنسا خاصة. والحقيقة فنحن أمام امبريالية متهالكة تعيش نوعاً من الموت البطيء حين تضطر لطلب العيش وسط التحالفات الدولية المشبوهة والارتكابات والفظائع الإجرامية العلنية والمقزّزة، وها هي اليوم على أهبة الاستعداد للإطاحة بقواعد النظام الدولي الذي كانت وضعته بنفسها قبل قرابة السبعين عاماً، ولكنه سيتفجّر الآن في وجه غطرستها واستغلالها وتناقضاتها.
سوف يولد عالم جديد بالتأكيد من رحم الانتصار الوطني السوري على التحالف المدمّر للوهابية السياسية والنيوليبرالية الاقتصادية، وعلى الحلف المقدّس للإرهاب القاعدي والعسكريتاريا الأطلسية والعثمانية المسلحة الجديدة. لقد كانت سورية مسرحاً لهذا الانتصار وشكّل مجلس الأمن منصة رئيسية لمتابعته عن قرب والتعرّف إلى محطاته ومراحله. وسواء تمّ إصلاح المؤسسات الدولية القائمة أم انقلب النظام الدولي رأساً على عقب، وسواء تمكن الغرب من الصمود أم انزلق في مسار من الانحدار والتراجع.. فإن العالم تغير، وولى، إلى غير رجعة، عصر الهيمنة الغربية.
بســـام هاشـــم