سياسات تتجاهل أن قوة الدولة في امتلاك مفاتيح الاقتصاد
لا يختلف اثنان في أن هناك فرقاً كبيراً بين ما يرسم على الورق من إجراءات سريعة وملحّة، تقدمها الحكومة لإصلاح وإنعاش ما تبقى من القطاع العام الصناعي من خلال المحاولات غير المرئية لدعمه، وتفعيل عمل مؤسساته وشركاته من الناحية الإدارية والمالية والإنتاجية والتسويقية والاستثمارية، وتأمين التمويل اللازم له لتجديد الأصول، وإجراء الصيانة، وتغطية التكاليف الإنتاجية والتشغيلية.. وبيّن ما تم فعلاً عبر مراحل مشروع إصلاح القطاع العام قبل الأزمة وحتى هذه اللحظة، وخاصة مع تعاظم حضور أيادٍ خفية تدفع بهذا القطاع نحو الهاوية حسب مضمون سلسلة المواقف التي تبناها جمال القادري رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال خلال المؤتمرات النقابية والتي لم تخف حالة عدم الرضا النقابي عن الواقع الصناعي الإنتاجي والإداري رفض المؤسسة النقابية للتوجهات الموضوعة، وتمسكها بالقطاع العام الذي يجسّد في رأيها قوة الدولة وحضورها الحقيقي في عملية التنمية بما يعزز قدراتها على مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تعزيز دورها الاقتصادي من خلال امتلاكها كل مفاتيح الاقتصاد من كهرباء وماء وطاقة ووقود وخبز وطحين.
والشيء اللافت والجديد بمقياس المستجدات أن عدم التقدم في مشروع إصلاح القطاع العام، بدّل من مسار التعاطي النقابي مع هذا الملف، وبدا ذلك واضحاً في حديث عمر حورية، أمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام لنقابات العمال، الذي لم يكتفِ بالتشخيص المكرر، وتحديد نقاط الضعف فيه، بل قدّم لنا بعض الحلول التي لم نسمع بها مسبقاً ضمن رؤية نقابية متكاملة وقابلة للتنفيذ والإسقاط على شركات القطاع العام الصناعي.
حورية : إحداث مجلس أعلى لإصلاح القطاع العام..
ويمكن أن تقوم النقابات بالمشاركة في إعادة التمويل وضخ الأموال في مشاريعه البيئة المرنة
حورية الذي يعرف بشفافيته وحديثه الواقعي، استرجع معنا نقاط الضعف التي حفظها الجميع عن ظهر قلب، كقلة اليد العاملة بالوظائف الإنتاجية، وتضخمها بالوظائف الإدارية، وغياب البيئة المرنة لاستقطاب العمالة الفتية ذات الخبرة النوعية، وضعف التمويل المالي للقطاع لأسباب متعددة، وضعف إنتاجية الآلات الموجودة، وزيادة معدلات الهدر، وقلة أجور العاملين، وعدم تناسبها مع ارتفاع الأسعار للحاجات والمستلزمات الضرورية في حياة المواطن.
وألقى حورية ببعض المسؤوليات على عاتق أنظمة الحوافز الضعيفة وغير الملائمة، وسعي بعض الإدارات لإرضاء الجهات الوصائية بشكل يغرقها في مستنقع الروتين والبيروقراطية والضعف في تنفيذ الوظائف الإدارية من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة ومتابعة، إضافة إلى غياب الإنفاق على البحث العلمي لتطوير منتجات القطاع العام الاقتصادي، ووسائل وأدوات العمل فيه، وضعف القدرة التنافسية لمنتجات القطاع العام.
عدم الجدية
وانتقد حورية سلبية التعاطي مع التحديات التي يواجهها القطاع العام الاقتصادي واضعاً عدم جدية الجهات المعنية في تنفيذ هذه المهمة في خانة الافتقار إلى رؤية واضحة ومعتمدة حول وجود ومستقبل القطاع العام في إطار رؤية شاملة للاقتصاد الوطني الاقتصادية الدولية، واعتبر أن أي مقترح لإصلاح القطاع الاقتصادي يجب أن يتناول آلية تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، وتحويل التحديات والتهديدات إلى فرص وإمكانات متاحة أمامه، وبالتالي فإن عملية إصلاح القطاع العام وإعماره، وإعادة هيكلته تتطلب تحليل الوضع الراهن لكل مؤسسة أو شركة أو منشأة ومعمل من وحدات القطاع العام الصناعي والإنشائي، وذلك من خلال تحديد أضرارها، وواقعها الأمني والإداري والإنتاجي والتكنولوجي والاستثماري والتشغيلي والعمالي والتشريعي والمالي والتسويقي، وتحديد حالة كل منها من حيث جدواها الاقتصادية والتجارية (الربح والخسارة المالية) وجدواها الاجتماعية القومية (استراتيجي/غير استراتيجي/هامشي).
وهذا في رأي حورية يتطلب عملاً دقيقاً لتحديد الوحدات التي يجب حتماً الاحتفاظ بها ودعمها وإبقاء ملكيتها حكومية صافية، والوحدات التي يمكن طرحها للتشاركية، وتلك التي يمكن الاحتفاظ المشروط بها (وما هي هذه الشروط)، أو الاستغناء عن أنشطتها واستبدالها بأنشطة أخرى، أو تلك الوحدات التي لا ينصح بالاحتفاظ بها على حالها، ولا يمكن الاستفادة منها لأنشطة أخرى والمقترحات لمعالجتها.
التوجهات الأساسية
وبرأي حورية هناك قضايا محسومة، وفي مقدمتها قضية التمسك بالدور الأساسي للقطاع العام، وبشكل خاص في القطاعات والمرافق السيادية الأساسية، وهو بالنسبة للتوجهات ربط عملية إصلاح القطاع العام بعملية الإصلاح الاقتصادي، وإعادة هيكلة الاقتصاد السوري، وذلك بالعمل على تطبيق التعددية الاقتصادية بحيث يكون إصلاح القطاع العام جزءاً مكملاً ومتكاملاً معها، ولذلك يرى أنه من الضروري تعديل البيئة التشريعية الناظمة لعمل القطاع العام بما يتناسب مع متطلبات عملية الإصلاح في ضوء الدروس المستقاة من تطبيقها في الماضي والحاضر مع مراعاة خصوصية كل قطاع ونشاط، وبشكل يوفر له البيئة القانونية والإنتاجية والمالية والتنظيمية المناسبة ليكون قطاعاً رابحاً قادراً على التوسع مستقبلاً بإمكانياته الذاتية بحيث يمكن في حالات محددة (تقترحها اللجان المختصة) أن تتم المشاركة مع مستثمرين من القطاع الخاص لتمويل عملية استبدال نشاط بعض الشركات، أو تطوير بعض الشركات الحدية، أو المتعثرة إدارياً وفنياً وتسويقياً من خلال عقود خاصة، أو بالمشاركة، أو بالطرح للاكتتاب العام للجمهور، أو الجهات العمومية من غير القطاع الخاص، وهي قطاعات تمويلية قائمة على النقابات، أي صناديق الاحتياط، أو صناديق الادخار، وصناديق التقاعد الخاصة بالنقابات، والتي تفقد قيمتها من خلال التضخم، وخلال تجميد المال، بينما يمكن أن تقوم هذه النقابات بمشاركة الدولة نفسها في إعادة تمويل وضخ الأموال إلى مختلف مشاريع القطاع العام من أجل إعادة تمويلها، وإعادة تنشيطها، وإضافة خطوط إنتاج جديدة وعصرية وحديثة، كما يفعل القطاع الخاص تماماً.
وأضاف حورية: هناك ضرورة للتوجه نحو اعتماد صيغة جديدة وعملية لمجالس الإدارة والهيئات العامة تكون حصراً من المختصين بعمل المؤسسات والشركات، وتتولى مجالس الإدارة والهيئات العامة المهام والاختصاصات المتعارف عليها، وبشكل خاص اعتماد السياسات والخطط، ومتابعة تنفيذها وتطويرها، وترشيح وتعيين شاغلي المناصب الأساسية في جهات القطاع العام التي تتولى مسؤوليته من خلال الإعلان، والمقابلات، وإعادة تقييم تجارب الشركات المشتركة، وكذلك عقود الاستثمار والـ BOT التي تمت بين بعض جهات القطاع العام والقطاع الخاص المحلي والعربي والأجنبي، واستخلاص نقاط الضعف والقوة فيها لتطويرها، وللاستفادة من تجربتها في المرحلة المقبلة، والاهتمام بمسألة التدريب والتأهيل من أجل تعويض النقص الموجود حالياً في اليد العاملة من حيث العدد والنوع، وكذلك لتوفير حاجة مرحلة إعادة الإعمار، وهذا ما يتطلب وجود رؤية خاصة لعملية التدريب تضمن تحقيق الاحتياجات العددية والنوعية، وتوفير مستلزمات ذلك من مؤسسات التدريب، وبرامج التدريب والمدربين، وتوفير الحوافز المشجعة على التدريب.
خطوات المعالجة
وفيما يخص الحلول والمعالجات كانت لدى حورية بعض الأفكار والمقترحات المبنية على موقف الاتحاد العام لنقابات العمال، وعلى الوضع الراهن، والتي وصفها بالفاعلة على المدى القصيرريثما يتم اتخاذ قرار استراتيجي بشكل القطاع العام وآلية عمله.
وفي مقدمة الخطوات التي يجب البدء فيها، برأي حورية، إدارة العملية الإصلاحية من مجلس وزاري مختص (مثلاً: مجلس أعلى لإصلاح القطاع العام يحدث لهذا الغرض)، يتمتع بالصلاحيات اللازمة ( بموجب تشريع خاص بإعادة الهيكلة إن لزم الأمر)، ومن ثم انتقاء الأنشطة الصناعية الاستراتيجية التي ستستمر بها الدولة، والتي ستؤسسها من جديد، والتخلي التدريجي عن الأنشطة الصناعية التحويلية ذات القيم المضافة المتدنية إن تحققت، والاستفادة من القيمة السوقية لمواقع الشركات الصناعية المتعثرة أو المتوقفة في تأسيس مشاريع جديدة حكومية 100% في حال توافر الإمكانات المادية والفنية، أو المشاركة مع القطاع الخاص الذي يملك هذه المقومات خارج المخططات التنظيمية للمدن، وضمن المناطق الصناعية، بحيث تنسجم والسياسة الصناعية الموضوعة في كل قطاع، إضافة إلى العمل على تخفيف الأعباء الاجتماعية الملقاة على عاتق هذا القطاع، وتمويل ذلك من موازنة الدولة بدلاً من تحميلها على تكلفة المنتجات الصناعية، حتى يعمل على أساس الحساب الاقتصادي، وفقاً لمعايير الربح والخسارة، ويمكن أن يكون الحل بتطبيق جزء من شبكة الضمان الاجتماعي المتعلقة بضمان البطالة، وتحويل هذا الفائض من العمالة إلى صندوق يحدث في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل يعنى بصرف رواتب فائض العمالة ريثما يتم تأهيلها للاستفادة منها في قطاعات عمل أخرى، وهذا الأمر لا يزيد من الأعباء المالية على خزينة الدولة، وإنما سيتم تحويل رواتب هذه العمالة من الشركة التي يتبعون لها إلى صندوق ضمان البطالة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
وعن ربط البحث العلمي بالتطوير الصناعي لفت حورية إلى أهمية العمل على إنشاء نظام للدعم الصناعي يرتبط بالجامعات، ومؤسسات البحث والتطوير والتدريب، والخدمات المالية والإدارية، وخدمات المعلومات والاتصالات، والخدمات اللوجستية، وتوحيد الإطار القانوني الناظم لعمل كل الشركات الصناعية في البلد، وذلك بهدف توفير بيئة مناسبة للمنافسة بين الشركات المنتجة العامة والخاصة، إذ لا يمكن أن تكون هناك شركتان تنتجان المنتج ذاته، ولكن تعملان بقوانين وتشريعات مختلفة، وهنا من الضروري تحويل الشكل القانوني للشركات مع المؤسسات (في حال تم الاحتفاظ بالمؤسسات) إلى شركات مساهمة عامة تمتلكها الدولة 100%، وتعمل وفق قانوني التجارة والشركات، وهذا يتزامن مع وضع آلية للمتابعة والمراقبة أسوة بغيرها من الشركات السورية.
تعزيز الدور
باختصار لابد من تعزيز دور القطاع العام في الاقتصاد الوطني، لاسيما الصناعي والإنشائي الذي أصبح اليوم أكثر ضرورة، على أن تكون عملية الإصلاح انتقائية تمييزية مدروسة، بحيث يتم التركيز على الجانب الاستراتيجي، التكاملي، وعلى الوحدات الإنتاجية الرابحة اقتصادياً والمجدية اجتماعياً، وبالحجم والكيفية التي تضمن مكانته إلى جانب القطاعات الأخرى، ولكن لابد من الانتباه أيضاً إلى تخطيط وتصميم عملية إصلاح القطاع العام على نحو يحول دون إلحاق الضرر بالعاملين الموجودين اليوم في المؤسسات والشركات الصناعية والاقتصادية العامة.
بشير فرزان