ثقافةصحيفة البعث

عبد الله مراد.. اكتمال المعنى في خصوصية اللوحة

سعيت منذ سنوات للتواصل مع الفنان التشكيلي عبد الله مراد صاحب المرسم الكائن في حارات دمشق القديمة، وقد اتفقت حينها مع الراحل نذير إسماعيل أن نترافق سوية فهو الأكثر لياقة بهذه الصحبة إلى هناك، فالطريق من العفيف إلى حي الأمين يحتاج لرفيق يمشي على مهل ويشاركك الحديث عن دمشق كيف كانت وكيف أضحت، وربما تحتاج إلى روح قريبة في هذا اللقاء مع عبد الله مراد حيث مرسمه المجاور لمنزل عبد الله والقريب جدا من مرسمه، فهم جيران وأصدقاء ومن جيل واحد ويمتلكون من الثقافة والخبرة في المجال التشكيلي ما يكفي للرد على أسئلتي ويغني في روح أي محب لدمشق وللوحة المختلفة.. المهم أن هذا اللقاء للأسف لم يتم لأن الموت خطف نذير، لكنني أبقيت على عهد نفسي لزيارة عبد الله.. وبعد سنوات ألتقيه هذه الأيام في صالة جورج كامل في معرضه المقام حاليا. وحاضرا نذير إسماعيل بروحه وذكرياتنا معه ومعنا عطر كل من رحلوا من الأصدقاء الفنانين.
كانت حمص ولا زالت هي الشرنقة التي خرج منها عبد الله مراد، وبالتحديد من أحيائها التاريخية والفقيرة، كان يستمع للموسيقى التي تأتيه عبر راديو البيت الذي لم يكن مسموحا لأحد أن يعبث فيه، فلا يد تمتد لهذا الجهاز غير يد الأب المولع بسماع الأخبار، فحين تمر إبرة المذياع فوق تلك المحطات التي تبث الموسيقى يستفز انتباه الصبي ليحفظ موقع المؤشر على التردد ليحفظ درجته، وليتمكن فيما بعد من الاستماع للموسيقى التي تستولي على روح هذا الكائن الصغير، هذه الصورة المقدمة تكفي لمن يحب أن يتابع مسيرة هذا الفنان السبعيني الذي لازال محتفظا بطفولته وبراءته ولطفه الخجول، مانحا إياك صدق الحضور سواء على الصعيد الشخصي أو الفني من خلال لوحة تبحث عن ذاتها فيك، وتثير حولك الأسئلة عن العالم الذي تكتنفه.
أرسم بدون أي فكرة مسبقة، هكذا قال لي، فاللوحة لا تحتمل أي فكرة مسبقة لها ولا تحتمل أكثر من الشغف بما سيولد، فهي تولد مع المعايشة والحوار وأي تأثير على السطح يتطلب مجاورا يلح لخلقه.. هي محاكاة بصرية عميقة يشغلها التأمل واليقين المتولد من الجديد.. هذا الوجود وحيث لا فكرة، يعني الفكرة الكاملة في الفن التشكيلي ويعني اكتمال المعرفة بما يولد حاضرا، ليتحول فيما بعد إلى يقين في اللون والخط ومقدرتهما على تحقيق هذه القناعة، بأن الجمال يتضمن الفكرة الكاملة ويتعدى ذلك بما يحقق من بهجة لا يعرفها إلا الذين يتلمسون هذا الطريق ويسلكون صمته العالي.
حواس غنية بالشعر واللطافة، ولا بد من أن تعلق اللوحة الأولى عند الباب وفيها شيء من سيرة الشاعر رامبو الذي عمل في القرن الأفريقي واستقر في اليمن بعد مرافقة، تجار السلاح والغزاة الأوربيين إلى العالم القديم الغني بالثروة والعبيد والأمكنة الباذخة في اللذة ووحشية المتعة والطقوس، ربما يكون موطنا للشعر والحالمين المغامرين، في تلك الأصقاع والجغرافيا تتوفر ولادات غريبة ومخلوقات خالصة العبث والعاطفة والتلقائية في مواجهة كم هائل من منجزات العقل الفتاكة. ويذكر مراد في بيانه حول الفن واللوحة: “التصوير بالنسبة لي إيقاع يتماوج على سطح اللوحة لينتج مساحات بطاقة خفية أو ما يشبه الكهرباء الساكنة، وهو لعب ومباراة مع المجهول وبحث عن الجوهر فيما وراء الحواس، وهو عمل مليء بالألغاز المحبوكة بتأثير التجاوب والتنافر بين البقع والخطوط والأشكال، وديناميكية العمل تنتج من تأثير هذه التصادمات ما بين العقل والمنطق وما بين الانفعال العاطفي المتأجج.. وبشكل عام لا أحب أن أحمّل اللوحة مالا تحتمله من سرد وأفكار، إنها هكذا شيء تحقق وجوده في لحظة ما نتيجة صراع عبثي مع الخامات والأدوات، عبث يحاكي عبث حياتنا ووجودنا، ودائما كنت أرى أن التصوير لغة تتشكل من الصمت، تسمع بالعين وتدرك بالبصيرة.
وكفنان أعشق كل ما يجعل من الحياة في ألق دائم وتوهج، وما كان الفن على مدى التاريخ إلا دعوة ضمنية للحرية والانعتاق في عالم لا زال يكتنفه العنف والفوضى وانعدام العدالة، وليس إلا التفاؤل وبعض الأمل هو ما يمنحنا القدرة على العيش ومواصلة الحياة”.
متى تنتهي اللوحة؟ متى تنتهي حرارة البحث في هذا المربع أو المستطيل؟ أتنتهي حينما يقرر الرسام أم حينما ينتهي هو ويخرج متيقنا أن صناعة الواقع ومعايشته ورسم العالم أمر يختلف عن معايشته الحلم، لأن الحلم لا يعني سوى صاحبه، وأن خطوط الطول والعرض على الكرة الأرضية هي ذاتها الخطوط المرهفة التي يتركها قلم الفحم على سطح اللوحة التي تنتظر قيامتها الجديدة بعد أخذ كفايتها ما المعالجة وحساسية الضوء والتوازن في التكوين، حينها يكون العالم قد استوفى كل شروط عدالته، هكذا فضيلة الجمال التي ينشدها الفن, وهكذا هو الفن التشكيلي السوري الموصوف بالدفء والحميمية، فسيرة الفنان هي سيرة اللوحة وسيرة الإنسان هي سيرة الوطن.
هذا المعرض المقام حاليا في صالة جورج كامل يعتبر من أهم المعارض لهذا الموسم، وفيه يكون المشهد التشكيلي السوري قد بدأ يستعيد ألقه من حيث النوع والمنافسة الحقيقية على المستوى الداخلي والمستوى العربي والدولي، فاسم عبد الله مراد جدير بالمحبة والحفاوة ولوحة هذا الفنان مرآة نظيفة للبراءة وروح الفن الحقيقي البعيد عن الاستعراض وضجيج الغوغاء.

أكسم طلاع