الأبيــض المتوســـط.. مهد الثقافات وملتقى الحضارات البشرية
البحر الأبيض المتوسط معجزة عند النظر إليه نظرة موضوعية، نكتشف فجأة أن هناك شيئاً فذاً فريداً وكأن هذا الكيان قد صمم عمداً، وبتأن وعلى نحو لا نظير له على الكرة الأرضية ليكون مهداً للثقافات، هذا ما وصف به الكاتب “جون جولويس نورويش” البحر في كتابه “الأبيض المتوسط.. تاريخ بحر ليس كمثله بحر”، يصحبنا الكاتب من خلال هذا العمل الموسوعي في رحلة طويلة في الزمان والمكان، تبدأ بالبشر وليس بالصخور والماء، كما يقول مؤلفه الذي زار كل البلدان الواقعة على شطاّنه ليكتب قصته، حيث تبدأ الرحلة من فينيقيا ومصر القديمة وتنتهي مع صمت مدافع الحرب العالمية الأولى.
على صفحات هذا العمل الكبير يتدفق نهر من الحكايات عن اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية المقدسة والعصور الوسطى والفتوحات العربية وصراعات الأباطرة والملوك والباباوات والقراصنة والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش الاسبانية والبعث الايطالي وحروب نابليون، وثورة اليونان ومصر محمد علي، وقناة السويس والإمبراطورية العثمانية وحروب البلقان، وتقسيم العالم القديم بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى في مؤتمر باريس (1919) ومعاهدة فرساي التي تبعته، ليسدل الستار على العالم القديم.ويبدأ عالماً جديداً. ويظل في القلب من ذلك كله.. البحر المتوسط.. الذي ليس كمثله بحر، كما شاءت الجغرافيا وقدر التاريخ.
اليونان
شهد هذا البحر حروباً كثيرة نبتدئها مع اليونانيين الذين كانت رياضتهم المفضلة الحرب، في عام 493 ق.م كانت أثينا قد كسبت معركة ولكنها لم تكسب الحرب مع الفرس، وكل ما استطاعت أن تحوز عليه فضاء للتنفس لكي تستعد للهجوم التالي، وكان القائد في تلك الفترة يؤمن بأن أفضل أمل لليونان بأن يكون لها قوة بحرية، فشرع في بناء أسطول بحري وشهد البحر اتحاد الاثنيين مع الاسبارطين في مواجهة عدوهم ويقال إن الحشد كان ضخماً لدرجة أن الرجال ودواب حمل العتاد والمؤن شربوا مياه البحر حتى جف، مع كل هذه الاستعدادات كان الانتصار لليونانيين حيث تم تدمير ما كان من السفن الفارسية.
من الطبيعي أن يؤثر البحر على الأراضي اليونانية وعلى المزاج السائد فيها فهو يفرض روحه على المنطقة فالبحر كان قد حظي بوجود عدد كبير من النوابغ التي مرت على العالم كسقراط وأفلاطون، ومن هناك تألقت الفلسفة وكتبت التراجيديا والمسرح وانطلقت العلوم والفنون.
الرومان
في الفصل الثالث يتحدث الكاتب عن روما الوريث الشرعي لليونان والتي كان نهوضها يعود قبل أي شيء إلى خصال الرومان أنفسهم وطبيعتهم، فقد كانوا شعباً بسيطاً مستقيماً أميناً مطيعاً للقانون، مع شعور قوي بقيم الأسرة مستعداً لقبول النظام، منضبطاً عندما يتطلب الأمر ذلك، ويمر الكاتب بتفاصيل سريعة على أغلب الملوك والأباطرة الذين حكموا روما وأهم المعارك التي استنزفت الكثير منهم، فروما في إحدى فتراتها كان لديها ما يقلقها والسبب في ذلك أن قرطاج في تلك الفترة قد نجحت في إقامة إمبراطورية جديدة تماماً ألا وهي اسبانيا والتي جاء في حكمها “هانيبال” الذي عرف بأنه أعظم قائد عسكري بعد الاسكندر المقدوني، وكان والده قد غرس فيه العداء والحقد الشديدين على روما، وستبقى الحرب بينهما كثيرا وتترك بصمة خزي في روما على الرغم من انتصارها في النهاية.
العرب والإسلام
في الفصل الخامس كان للإسلام حصة فيه، فحتى الربع الثاني من القرن السابع كانت الجزيرة العربية أرضاً مجهولة بالنسبة للعالم المسيحي، ولأنها كانت منعزلة وذات طبيعة قاسية غير منتجة لأي شيء يغري تجار الغرب، ثم في لمحة بصر تغير كل شيء، في 622م هاجر النبي وأتباعه من مكة إلى يثرب وكانت تلك نقطة البداية للعهد الإسلامي، عرب الجزيرة في البداية لم يكونوا يعرفون البحر وبالتالي لم يكن لدى المسلمين الأوائل أسطول، فالقليل منهم كان قد رأى البحر، ولكنهم سرعان ما أدركوا أنه إذا كان لابد لهم من تحقيق الانتصار أن يجيدوا فنون الملاحة، واستطاع العرب أن ينشئوا أحواضاً لبناء السفن وتجهيزها، ومن ثم بناء أسطول قوي للحرب والتجارة، إلى أن أصبحوا قادرين على تحدي التفوق البحري لبيزنطة نفسها.
هنا الكاتب يغفل عن ذكر معركة ذات الصوراي التي انتصر فيها الإسلام والتي تعتبر أول معركة لهم في البحار، ثم يتابع الكتاب ليذكر وصول العرب إلى تونس، وبعد فترة من الزمن بدأ العرب يفكرون جدياً في إسبانيا، وعندما أسس العرب حضارة الأندلس غزت الجيوش العربية فرنسا ثلاث مرات، وبالتزامن مع حكم العباسيين في المشرق وبلاد المغرب العربي.
السلام
الفصل الأخير من الكتاب جاء تحت عنوان السلام، الشرق الأوسط الجديد 1922، ويأتي حسب الكاتب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فبالنسبة للبحر المتوسط كانت الدول المصطفة على ساحله الجنوبي مازالت تحت السيطرة الأجنبية، وكل الدول التي انتصرت في البحر تتطلع إلى أن يعود مؤتمر باريس عليها بفائدة ما في البحر الأبيض أو عليه، وضع مؤتمر باريس للسلام الذي عقد في 1919 واتفاقية فرساي نهاية للعالم القديم وبداية للعالم الحديث.
في النهاية الكتاب يروي قصة أعظم بحيرة طبيعية ومركز التاريخ وملتقى الحضارات الأعظم في تاريخ البشرية، على ضفافه نشأت ونمت الأديان الثلاثة الكبرى وعن طريقه تواصلت ثلاث قارات، وفوق مياهه وجزره تصارعت الإمبراطوريات وبذلك كله تعددت أدواره وتجلياته ليكون جسراً وعائقاً ونعمة ونقمة وأيضاً مسرحاً لحروب ضروس.