نزار قـبـاني.. قنديـل الأمـوي
مرت منذ أيام قليلة، ذكرى أثيرة على قلوبنا، وهي ذكرى رحيل الشاعر الدمشقي “نزار قباني”-1923-1998، المبدع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، شاعر الحب في زمن الجدب والقحط والبشاعة؛ لقد كان الحب رفيقه وشقيقه ووردة عروة قميصه، ولد معه كما “يولد السكر في التفاح”؛ هناك جزء من قصائده، يمكن تسميتها بـ “الحنينيات” بث من خلالها، أرق المشاعر في شوقه لمدينته وبلاده، إحداها صاغها على شكل (تصبيحة) على أمه، تبدأ بطريقة رائعة وأخاذة، كما لو أن شابا يعبر أرض “الديار” ويقف بباب المطبخ، حيث والدته تصنع القهوة، ليقول لها: “صباح الخير يا حلوة/صباح الخير يا قديستي الحُلوة/ مضى عامان يا أمي/ على الولد الذي أبحر/ برحلته الخرافيّة/ وخبأ في حقائبه/ طرابينا من النعناع والزعتر/ وليلكةً دمشقيّة”.
الحب الذي اقترن دائما باسم الشاعر، لم يكن منذورا فقط للمرأة أو للأنثى، كما يظن الكثيرون، بل هناك نوع من غرام يقطر عشقا، ولكن للأرض، للبلاد، الفرح بانتصاراتها، والأسى على انكساراتها؛ في قصائده ومواده النثرية، التي تتناول الأمور الوطنية، يظهر “نزار قباني” مربي أجيال بمرتبة شاعر، ففي انتصار حرب تشرين، قام بإهداء أيقونة لبلاده، بعنوان “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” والتي صاغها بطريقة مذهلة، فهي من الشعر العمودي، لقد أدرك أن مناسبة كهذه لا يليق بها إلا شيء من مستوى الشعر الجاهلي والعباسي، فمطلع القصيدة، إذا عرضناه على قارئ لم يسمع بها من قبل، لن يصدق أنها كُتبت في زمن قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، يقول: (أتُراها تحبّني ميسونُ/ أم توهمتُ والنساءُ ظنونُ/ يا ابنةَ العمّ والهوى أمويٌ/ كيف أُخفي الهوى و كيف أُبينُ/ جاء تشرين يا حبيبة عمري/ أحسن الوقت للهوى تشرينُ).
أما في لحظات حزنه على أمر جلل يعصف بالبلاد، فإن غناء حزينا يخرج من أوراقه، كما في قصيدته التي كتبها تنديدا باتفاقية “غزة-أريحا” والتي سوف تتطور لتعرف باتفاقية “أوسلو” لاحقا، متخذا موقفا جريئا وحادا من التطبيع لا مواربة فيه، ومتصديا لكل ما كان يروجه الإعلام العالمي، وبعض الإعلام العربي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وفي الوقت الذي كان فيه العديد من الشعراء والأدباء العرب، يروجون لنفس الموقف، فإن اعتراضا مدويا سوف يخسف الأرض من تحت الجميع، بكلمات تتناول ثيمة “الخجل –الحياء” تصف أن فعل التوقيع على الاستسلام، أمر يبعث على الخجل والحياء، الهجوم المضاد لموجة الخنوع، بدأه “نزار قباني من العنوان “المهرولون” لينساب بعدها التوبيخ الشعري الجميل، في هجائية سيخلدها التاريخ قال فيها: (سقطت آخر جدرانِ الحياءْ/و فرِحنا ورقَصنا/وتباركنا بتوقيع سلامِ الجُبنَاءْ/لم يعُد يُرعبنا شيئٌ/و لا يُخْجِلُنا شيئٌ/فقد يَبسَتْ فينا عُرُوق الكبرياءْ/بعد هذا الغَزَلِ السِريِّ في أوسلُو/خرجنا عاقرينْ/وهبونا وَطناً أصغر من حبَّةِ قمحٍ/وطَناً نبلعه من غير ماءٍ/كحبوب الأسبرينْ/./ سقطت للمرة الخمسين عذريتنا/ دون أن نهتز أو نصرخ/ أو يرعبنا مرأى الدماء/ ودخلنا في زمن الهرولة/ ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة/ وركضنا ولهثنا/ وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة.
القصيدة السابقة لم ترق لبعض الأدباء العرب، وعلى رأسهم “نجيب محفوظ”، صاحب “نوبل”، فنشر ردا على القصيدة ينتقد موقف “نزار” وذلك كان من حسن حظ القراء، لأن نزار سوف يرد أيضا على الرد، وهنا الصحافة العربية، التي تسابقت لنشر كلام “نزار” النثري، كانت على موعد مع مادة نثرية بديعة، جماليتها في أنها تظهر كرد صحفي، لكنه ينطوي على جماليات لغة نزار قباني، ومما جاء في الرد الذي نشرته حينها مجلة “روز اليوسف” التالي: “فليعذرني عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه، فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها أو نظام روتيني تخضع له، إنها امرأة عصبية، وشرسة، تقول ما تريده بأظافرها وأسنانها، القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص والمرتزقة وقراصنة السياسة وتجار الهيكل” ثم تابع القول: “هذا موقف الشعر مما يجري على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفا) ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام)!.. وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟”.
هناك مواقف أخرى شفافة ومماثلة لمواقفه السابقة، وهي من نفس النوع الذي ينطق عادة بصوت الضمير؛ ربما كان من الظلم أن يرتبط اسم الشاعر فقط بالمرأة والحب، وربما كان من العدل، أليست البلاد، مسألة حب أيضا؟، وامرأة بما تحمله من معاني الأمومة.
عندما سمت دمشق واحدا من أشهر شوارعها باسمه، عبّر “نزار” عن هذا الحدث بقوله البديع: “هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ، هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنّة، تذكروا أنني كنت يوما ولدا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره.
تمّام علي بركات