ثقافةصحيفة البعث

“جماليّة الأدب”.. الغموض والوضوح من جديد

 

ليس للأدب من خيار آخر سوى أن يكونَ جميلاً، بغضّ النّظر عن الموضوع الذي يعالجه ولكن أين يكون جماله، أهو في معانيه أم ألفاظه، أو في نظامه وأسلوبه، أم في هذا كلّه؟
هنا يشتدّ اختلاف النقاد وتتعدّد مذاهبُهم، فهناك الكثير من القدماء الذين كرهوا بشعر أبي تمام غموضه وإرغامه الألفاظ لتذعنَ للمعاني. هي إذن المسافة الملتبسة ذاتها في كلّ زمان ومكان، بين القديم والجديد الذي لم تألفه الذّائقة بعد. الأمر يتطلّب إيجاد لغة ثالثة لحلّ هذا الإشكال في الفهم، وهي أن تتنطّح المؤسّسات الرسميّة الثقافيّة والتربويّة المعنيّة بالأمر “وزارتي الثقافة، التربية، اتحاد الكتّاب العرب الخ..” قبل جهود الأفراد لمسؤوليّة الارتقاء بذائقة الأجيال وتعميم طرائق وأساليب نقديّة تذّوقيّة حديثة تواكب الجديد على مستوى العالم بهذا الصّدد. بذلك تتعدّد القراءات وتتطوّر مناهجها بدل الركون لكتب النّقد الصّفراء وحسب، بحجّة المحافظة على الأصالة، مع أنّ في الأصالة والمناهج التاريخيّة ذاتها طرقاً للقراءة الأدبيّة لو مُورست بفهمٍ جديد لأعطتْ نتائج طيّبة بهذا المعنى، وما يلزمنا هو ثورة ثقافيّة تمكّن الطلبة والأكاديميّين التّقليديّين من حلّ معادلة الفهم السّطحيّ لـ “الغموض والوضوح” حينها سيتغيّر مفهومنا للذات الثقافيّة والتراث أيضاً، وسيتلاشى تدريجيّاً الفهمٍ القاصر لاتّهام الأقدمين والمحدثين “أبا تمام” وغيره، بأنّهم ذهبوا بالشعر والكتابة عموماً مذاهب لم تألفها الذائقة المتعارف عليها وأنّ “أبا تمّام” قد أسرف في الإغراب والاستعارة والمجاز وانحرف عن سنّة الكتابة وطرائقها المعروفة، ليمارس عنفاً على اللغة ويقوّلَها ماتأنفه طبيعتها نفسها، مع أنّ هناك من النّقاد من أحبّوا بأبي تمام الصفاتِ ذاتَها التي أنكرها هؤلاء، ورأوها شططاً عن المذاهب، فامتدحوا مذهبه وطريقته التّجديديّة المحفّزة للذائقة على تلقّف الجمال واستيعابه عن طريق العقل والأذن والذّائقة المثقّفة، بحيث يجب إطالة الوقوف والتّمعّن في المقروء والملفوظ واستخراج مكنوناته وكنوزه كما يُستخرج اللؤلؤ من أغوار البحر. وإنّ في ذلك لمتعة لا تضاهيها متعة، تتجلّى في استكشاف المخزون المستتر الذي تضنّ به اللغة وتتمنّع على من يقرأها قراءة سطحيّة.
كذلك اختلف الأقدمون بـ “مسلم بن الوليد”، لاحتفاله بالألفاظ أكثر من المعاني وتكلّفه الموسيقى من خلال المطابقة والجناس والمحسّنات البديعّيّة المختلفة التي تزيّن اللفظ وتُخضع المعنى له. وهناك آخرون أًعجبوا بهذه الصفات نفسِها التي أُخِذَتْ عليه كمثلبة، كما اختلف النقاد في الوقت الحاضر حول بعض رموز الأدب الحديث كـ “أدونيس وسليم بركات” وغيرهم، وذهبوا بذلك مذاهب كشأن الأقدمين. واختلفوا حول قصيدة النثر وغيرها من الأجناس الأدبيّة، وقبلها حول قصيدة التفعيلة وما سمّي حينها بالشعر الحديث أو الحرّ. وحدث في الغرب مثل هذا الأمر أيضاً. ولعلّ ذلك كلّه ينضوي تحت مقولة جدليّة التطوّر، وثنائيّة القديم والحديث المتوالد من رحمه، حيث تظلّ الذائقة التقليدية تتجاهل وتتنكّر للجديد كنوع من دفاع القديم عن نفسه وعن سطوته وحضوره المتلاشي، حتى يغدو هذا الجديد واقعا لا يمكن تجاهلَه مع الزمن فتعترف به على مضض، ليتحوّل بدوره إلى نمطٍ قديم يصارع من أجل البقاء، وبهذا الصّدد يقول عميد الأدب العربي “طه حسين”: رأيت من بين الشعراء المعاصرين الفرنسيين من يقول بأنّ بين الشعر والنثر فرقاً خطيراً، فالنثر يُقتل بمجرد أن يُفهم كمن تّستلُّ منه الروح فيصبح شيئاً هامداً يشبه ما قصده أبو نواس بقوله:
ما زلتُ أستلُّ روح الدِنّ في لطفٍ
وأستقي دمَه من جوف مجروح
حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي
والدِنّ منطرحٌ جسماً بلا روح
وللشعر شأن آخر، فجماله لا يتأتّى من فهم معانيه، ولا سبيل إلى استلال روحه وإنّما يتأتّي من صوره ومن تلك الأخيلة التي تثيرها ألفاظه في النّفس، وهو باقٍ مادام ينبع كالمياه الجوفيّة من أعماق تربة الكينونة البشريّة، ولذلك هو أقوى وأشد امتناعاً من أن نلخّصه بضرورة الفهم، وأقوى وأشد امتناعاً أيضاً من أن يدركه الفناء، فنحن نكاد لا نعرف شيئاً عن مصدر الجمال الذي يُبهرنا حين نرى منحوتةً جميلة التّجسيد، أهو مادة المنحوتة، أم موضوعها وفكرتها؟ وكذلك الأمر تجاه مقطوعة موسيقيّة أو رسمٍ شفيف لأحد الفنّانين المبدعين.
إنّ الأمر أشبه بلغز لذيذ الكشف والمكاشفة، بل هذا هو سرّ الإمتاع الذي تتلقّف به نفوسنا الجماليّات الظّاهرة والخفيّة بروحانيّة تسمو عن الشّرحٍ والتّفسير، ولذلك ليس علينا سوى أن نأخذ الموسيقى والنحت والرسم والتصوير على أنّها وجبات روحيّة تغذّي البصيرة والباصرة، فليكن جمال الأدب في الألفاظ أو المعاني أو النّظم والأسلوب أو في ذلك كلِه، فالكلام الذي يمتحن ذائقتنا ويدعوها للمزيد من التأمّل والمضغ الهادئ لمعادلات فيزياء وكيمياء الصّور والتّخييلات والألفاظ هو وحده الجدير بصفة الأدب. وتلك اللغة الإشاريّة التي تومئ ولا تقول، بغموضها الواضح اللّذيذ هي من يمنح الكتابة وصفة الجمال المنشودة، وكما قال الشاعر يوماً “الشعر لمحٌ تكفي إشارتُه”، فليكن الموضوع جميلاً أو قبيحاً محبّباً أو بغيضاً، المهمّ أن يثير فينا رعشة الجمال ونشوته، فثمّة ما يمكن توصيفه بجماليّات القبح أيضاً كأن ترى ضمن الخراب زهرة تنبثق من أجنّة العتمة والغبار.
أوس أحمد أسعد