سقوط مبكر للنجوم
سلوى عباس
ارتمت فوق الكنبة منهكة من تفاصيل يوم متعب قضته في اللهاث وراء استكمال أوراق عودتها إلى عملها، وكأنها تدخل الوظيفة لأول مرة.. كانت أسيرة للتعب والقهر تسفح أحزانها برداً يشعل السمع ويطفئ الروح.. هي أسيرة أحزانها المستديمة وافتقادها الأزلي للفرح الذي كلما هيأت لنفسها أسباب إبعاد ليله الموحش الذي تعانيه، كانت ترتد إلى زواياه وكأنها تفتقد أنسه المهلك..
يا للوقت المر الذي يمر، تستعيد عبره صور أحبة غادروها وزرعوا فراقهم في روحها وجعاً أبدياً. وبينما هي في حالة إرهاقها وتعبها طُرق الباب لترى بعض جاراتها وقد أتين للاطمئنان عليها، ولم تكد ترد تحيتهن حتى دخلن وجلسن دون أي اعتبار منهن لظرفها إذا كان يسمح باستقبالهن أم لا، فجلست صامتة تحاصرها حراب نظراتهن التي تحمل الكثير من التساؤلات التي ترجمنها بداية بالرحمة على روح ابنها الذي اختطف وقت اختطافها هي وأسرتها ومن ثم استشهد، وأخذن يكلمنها عن الأحزان التي استوطنت بيوت السوريين جميعاً علهن يخففن بعض ألم يقض روحها، لكنها ظلت على حالها ترسم قفلاً من طلسم وأسرار على وجهها الحزين، معقودة سراديب كلماتها على غموض توصد كل الدروب إلى انفراج قلبها، وتستر ما قد ينفلت من بريق حزن عينها.
حاولت إحدى الجارات أن تخفف عنها ببعض العبارات المتداولة عادة في هكذا مواقف فردت عليها بصوت ذابل موجوع يواري ارتجافه، مسبوك في قالب من عدم الوضوح حبيس جراحه ينزف شدوه نشيجا وبحة وهن واعتلال.
سياج من إحساس ورهبة مما سيأتي به الغد يحيط بها فيحيلها سجينة على حدود مرسومة بالترقب والانتظار، وحيدة بين السماء وانكسارات الوقت على حافة الوجع الذي كانت تظنه انتهى مع نيلها حريتها، لتفاجأ بالوجع الأكبر الذي ينتظرها بفقدها وحيدها، الذي رغم كل وجعها رددت عندما سمعت الخبر بعبارات ممزوجة بعلقم الحسرة “الموت علينا حق” لترى نفسها مبعثرة كما روح من زجاج فقدت قدرتها على التحليق.. فبعد فراقه لا أحد يدق باب قلبها ويضيء حجراته الباردة.. لا ليل يأتي ولا نهار.. كل شيء من الرماد يبدأ ثم لا ينتهي إلا به.. ما من زرقة ستأتي ولا اخضرار، يغادرها إحساسها بالحياة، ويفسح للشوق واللهفة على فلذة كبدها الذي رآه قلبها قبل عينيها كيف واجه مصيره وحيداً مع قتلة كانوا يتفننون بأساليب العذاب.. هكذا يحين موعد مبكر لسقوط النجوم، فتعيش أيامها متوزعة بين التفاتاتها إليه في غرفته تتخيله جالساً على طاولته يتابع دراسته، وبين خطوها المتعثر في الدروب التي كان يسلكها، لترهقها فكرة كم من الأزمان سيحتمل قلبها الفراق، وكم من رماد الوقت سيثقله.. والى متى سيحتمل الوقوف دون نبض..
هو الحنين يسافر بنا إلى مرافئ الذكريات والأحلام.. يغمس أصابعه في وجداننا، ويتركنا على قارعة القهر والأسى، في حالة توق للإنعتاق من زمن الحرب التي زرعت الدمار والحصار في أوطاننا قنابل موقوتة قابلة للانفجار كل لحظة، ونصبت حولنا سياجاً شائكاً من الخوف والموت، يفتك في أجساد فتية تختنق ببراءتها الغضة.. لكن الحياة تفرض قوانينها تحد يجب أن نعيشه، ومغامرة يجب أن نخوضها فهي رغم كل شيء مستمرة ولا تنتظر أحداً.