النكبة.. والصهاينة العرب
يوم 9 أيار عام 1948 صدرت الصفحة الرئيسية لصحيفة “المصري” المصرية بعنوان “حكومات العرب تخصص قواتها ومواردها لدحر الصهيونيين بمجرد إنهاء الانتداب البريطاني في فلسطين”، وإذا كنا نعرف اليوم أن الأغلبية الساحقة من “حكومات العرب” حينها لم تخصص شيئاً، ولم تدحر أحداً، بل كانت فقط تحتاج إلى غطاء إعلامي لبيع فلسطين، ومنحها “للمساكين اليهود” كما قال “كبيرهم”، فإن هذه الحكومات ذاتها لم تعد تحفل هذه الأيام حتى بهذا الغطاء الإعلامي، وجلّ ما سنقرؤه في صحف اليوم هو التنديد بهذا “اليوم العظيم لإسرائيل” كما قال ترامب، بل وأكثر من ذلك، سنقرأ في صحف البعض اعتزازاً فاجراً بالحليف “الإسرائيلي”، فيما سيكون الغائب الأكبر عنواناً ما، ولو على سبيل الدعاية الكاذبة، على مثال عنوان صحيفة “المصري” في ذلك اليوم الغابر.
والحال فإن الموقف “العربي” في “سبعينية” النكبة القديمة، هو، بكل المقاييس، نكبة جديدة بامتياز في سلسلة النكبات التي يولّدها المشروع الصهيوني منذ نشأته، بل وربما يكون أخطرها، لأن مساهمة الصهاينة العرب انتقلت اليوم، بدفع أمريكي كامل، من مشاركة “الإسرائيلي” في نفي الفلسطيني من المكان/الجغرافيا، إلى المساهمة في نفيه من التاريخ/الذاكرة بحيث لا يكون له حق الوجود الحالي في أرضه، لأنه لم يكن موجوداً من قبل في تاريخها، كما تنطّح بعض “المفكّرين الجدد” من عرب الردة الوطنية والأخلاقية، وبالتالي ليست فلسطين البوصلة والقضية المركزية، بل مجرد مسألة ثانوية بين مسائل عدة أهم وأخطر، وهذا ما يحاول هؤلاء “المفكرون” زرعه في الوعي الجمعي امتثالاً لأوامر السلطان ورغباته التي تتساوق مع أوامر السيد الأمريكي بأن تكون “إسرائيل” حليفاً ضرورياً للعرب “المعتدلين والحضاريين” في مواجهة “المتطرفين” الذين مازالوا يؤمنون بالحق الفلسطيني الساطع والعادل، لذلك لم يكن مستغرباً أن يقدّم أحد وزراء خارجية “الاعتدال” “دعماً تاريخياً لإسرائيل” في مواجهة من “يعتدي عليها” كما رأى الوزير المذكور.
بيد أن الخطورة لا تكمن في موقف “عرب الاعتلال” الأمريكيين فقط، بقدر ما تكمن في موقف بعض القوى والفصائل الفلسطينية التي رهنت قضيتها لخدمة حسابات إقليمية بوهم “أستذة العالم” الإخوانية والتي تكشّفت أجندتها الحقيقية عن مقاومة لفظية مخادعة في المثال الإخواني التركي، وعن صداقة مع “العزيز بيريز” في الحالة الإخوانية المصرية، وعن الالتفات للعدو القريب، وهو الشريك في الوطن، في الحالة الجهادية المجرمة، وتلك، في حقيقتها، آية انتصار “الصهاينة العرب” الذين قدّموا المال، ورعوا كل أشكال الفكر التكفيري للوصول إلى هذه اللحظة البائسة.
بهذا المعنى لم يكن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والصمت العربي المبارك لهذه الخطوة، حدثاً طارئاً بقدر ما هو حدث كاشف لحقيقتين باهرتين، الأولى أن “إسرائيل” في حقيقتها ليست أكثر من صفحة من التاريخ الأميركي الامبريالي نفسه، مثلها في ذلك مثل أنظمة الصهاينة العرب، والثانية تنبثق من الأولى، ومفادها أنهما، معاً، العدو الحقيقي لفلسطين والفلسطينيين، وأنهما، على مثال ما فعل السيد الأمريكي، يراهنان على شيء واحد، وهو تراخي الشعب الفلسطيني عن قضيته، وتحوّله إلى “هندي أحمر” آخر، أي حالة ثقافية مكانها المتاحف المحلية فقط لا غير، لكن ما نراه على الأرض، وما يجترحه الشعب الفلسطيني بلحمه الحي من معجزات الصمود، يشي باستحالة تحقق رغباتهما على المدى الطويل، وبأن رهان “السفارة” سيكون في مواجهة رياح “مسيرات العودة” – والدماء التي قُدّمت خلالها- خاصة أن هذه “المسيرات” التي يشارك بها أطياف الشعب الفلسطيني كافة، وتحديداً الأجيال الجديدة، ترفع شعاراً واحداً: “العودة ولا شيء غير العودة”، وهو شعار يعني بكل بساطة أن بوصلة الصراع لم تحد عن وجهتها الصحيحة، وأن الوعي الفلسطيني، بـ”أس” القضية وجوهرها، هو وعي كامل متكامل، فهذا صراع وجود وليس صراع حدود، صراع على الجهات الأربع، وليس “الشرقية” منها كما يروجون. والوعي بالقضية، وإن كان غير كافٍ لوحده، إلا أن التمسك به هو من مقدمات النصر وإرهاصاته المبشّرة.
أحمد حسن