معادلة العرض التشكيلي.. إيقاعات تراتبية
كنت أتساءل دوما عن الهدف والغاية من إقامة معرض تشكيلي لا يتعدى حضوره مجموع الفنانين المشاركين، وفي أحسن الأحوال بعض ممن جاؤوا معهم من أقاربهم أو أصدقائهم المهتمين، وكنت أستنكر دوماً تلك الإهانة التي تلحقها تلك اللامبالاة حيال هذه الأعمال التي أعتقد أنها ماعلقت إلا على حبال ذل تطالبها بأن تصير هي المتفرج والشاهد في آن، وكأن الصالة صارت مسرحاً لثرثرات تدير ظهرها لتحطم كل ما بقي للفن من كبرياء، وتخنق بقصد أو بغير قصد كل هذا العطاء.
إن الهدف يتجاوز تلك الشكليات الصغيرة المتمثلة بافتتاح يحتضنه مسؤول أو غير مسؤول، وحضور إعلامي تملي عليه ما يجب أن يقول والغاية ليست تسجيل نشاط ما لصالح جهة ما، فالفن كان ولا يزال عنوان تطور الشعوب ورقيها، والمعارض هي إحدى وسائل التواصل والتحاور والارتقاء بالذوق العام، ومسؤولية القائمين على تلك المعارض تسهيل ذلك التواصل والوصول، ابتداء من المعايير الموضوعة لاختيار الفنانين وأعمالهم المشاركة والمرتبطة غالباً بالهدف الخاص والغاية التي تفرض في كثير من الأحيان طبيعة الموضوع أو الاتجاه الفني أو حتى الشكل الخارجي للعمل، أما تلك المعارض المفتوحة على حرية الإبداع بعيداً عن أية قيود تفرضها الجهة العارضة على الفنان فهي الأقرب إلى ملامسة المصداقية والحالة الإبداعية ولكن غناها وتنوعها يفرض المزيد من التأني في طريقة الإخراج والعرض وهذا ما أنا بصدده هنا, وما دفعني لهذا أن غالبية ما شاهدته من معارض كانت تفتقد إلى ذلك الذوق في الإخراج، فيتحول المكان إلى وجبات سامة على سفرة غير متناسقة تشكيلياً ولونياً حين يفتقد منظمها إلى الوعي بحقيقة أن الشكل العام بحد ذاته لوحة لا تقل أهميتها عن الأجزاء، وهو الذي يعطي الأجزاء حقها وقيمتها التي تستحق, وأنا لا أقول هنا كما عمل مسرحي يعمل أفراده مجتمعين لإنجاح العرض، فالتشكيل عمل فردي أكثر أنانية يصير فيه كل فنان بطلاُ ونجماُ لعالمه الخاص, ما أقوله إن الحوار يبدأ من الكل وينتهي إلى الأجزاء، فانطباعك عن المعرض يبدأ منذ اللحظة التي تلامس فيها قدماك بلاط أرضه عند المدخل وعندما تسقط فيها عيناك على الحدث عند اللوحة الأولى, وأن تخميناتك السابقة والمرتبطة بالدليل أو الإعلانات التي كنت قد رأيتها آيلة للسقوط أو الصعود، وقوة الإبداع تتجلى في ظل هذا الغموض.
ويمكن أن أستذكر هنا معرض ميرو بثلاثة أبعاد لـ د أحمد معلا والذي يؤكد فيه على قيمة المكان بكل ما يتضمنه من مفردات حتى بزواره وقد ألبسهم جلابيب زرقاء وحمراء ليصيروا الجزء المتحرك وغير المنفصل عن اللوحة والحدث, تلك القيمة صارت أساسية في فن ما بعد الحداثة الذي طرح مفاهيم جديدة تشكك في ماهية الفن والغاية منه، عبر وسائل وأدوات وخامات جديدة أخرجت اللوحة من إطارها الخشبي وفتحت الحدود ليصير كل فعل متاح، فصارت للأشياء المهملة قيمة استثنائية وصار للفضاء المحيط قيمته اللحظية التي لا تتجاوز أيام العرض المحدودة لذاك العمل الترتيبي في الغالب، والذي اقتصرت مهمة الفنان فيه على تقديم مجموعة من الإملاءات لعمال يرتبون وينسقون، يجمعون ويركبون ويوزعون للوصول إلى وصف جمالي قد يحمل فكرة تجد مبرراتها عند الفنان الذي جرد العمل من قيمته المادية حين صار مرهوناً بمكان ووقت العرض, وأنا هنا لا أتخذ مواقف من هذا التوجه الذي فرضته المعاصرة ورغبات التمرد والبحث عن مفاهيم جديدة للفن، إنما أؤكد على قيمة الفراغ والفضاء المحيط والإخراج الفني للمعرض بكامله, وكلما تنوعت الأعمال من حيث (الأحجام والمواضيع والمواد المستخدمة والأساليب الفنية) صارت المهمة أكثر صعوبة وحساسية، أما حين يختلط الحابل بالنابل وتتفاوت المستويات، وأشير هنا إلى معارض محلية على مستوى أضيق تضم أعمالاُ لا تستحق العرض إلى جوار تجارب هامة ولها قيمتها، فتصير المهمة هي حفظ ماء الوجه والخروج بأقل قدر ممكن من الخسارة، ويمكن أن أقترح هنا تقسيم مكان العرض إلى جناحين إن لم يكن تبعاً للمستوى فتبعاً للجيل وذلك تحسباً من وقوع أية حساسية بين المشاركين، ثم تقسيم كل جناح إلى عدة أجنحة تبعاً للمدرسة التي ينتمي إليها العمل ثم تبعاً للمواد المستخدمة (مائي– أكرليك- زيتي– مواد مختلفة) ثم تبعا للأحجام وأخيراً تبعا للموضوع المعالج أما أثناء وضع اللوحات على جدران الصالة، فتراعى المسافة الفاصلة بين كل عمل وآخر والتي أرى أنها يجب أن لا تقل عن 35% من امتداد العمل عرضاً بمعنى أن المسافة الفاصلة بين عملين قياس كل واحد منهما (100-100) يجب ألا تقل عن الـ35 cm, وكما جرت العادة يجب أن تراعى المساواة الأفقية بين الأعمال من الأعلى أو من الأسفل، والحقيقة أنا لا أفضل التعلق بالأشياء المعتادة أياُ كانت النتيجة التي تحققها ، وأفضل إيجاد معادلات تراتبية أخرى تحقق التوازن وتبرز الجماليات، طبعاً ليس هناك من حلول جاهزة يمكنني أن أقرها هنا، فالمهمة خاضعة لطبيعة الأعمال بأشكالها وألوانها وحجومها ولكن إليكم بعض التصورات التي قد تلبى كأن تصير القاعدة الوسطى هي خط التناظر والمساواة بين الأعمال وأن تتلاصق أعمال وتنفرد أخرى بما ينسجم مع إيقاع غنائي تفرضه ثلاثيات وثنائيات وأعمال تتشابه في التكنيك والموضوع، أما اللوحات المربعة والصغيرة فتحقق حضورها عمودياً وتحت بعضها إن تناغمت لونياً وإن تساوت أو حققت تلك المحاكاة النسبية، صغيرة، أصغر، فأصغر أو العكس، وتبقى الأعمدة مكاناً مثالياً لتلك المساواة أو المحاكاة أو للوحات طولانية قليلة العرض، وهنا لن يفوتني أن أذكر أيضاً ضرورة تعليق اللوحات على ارتفاع ومستوى يناسب عين الرائي ولا يضطره لرفع رأسه أو خفضه, وفي بعض الأحيان لا ضير من عرض إحدى الأعمال على حامل مرسم أو تعليق لوحة صغيرة على ظهر كرسي مناسب، كما أنوه إلى ضرورة أن تكون الحوامل ذات ألوان حيادية رمادية فاتحة أو بيضاء، وفي حالات خاصة جداُ سوداء وذلك لقدرة تلك الألوان على احتضان وإظهار جمالية الأعمال كما لو كانوا أبناءها. أما بالنسبة للأعمال النحتية وتلك محطتنا الأخيرة فمن الأهمية توزيعها وفق إيقاع جمالي يظهر ولا يخفي أو يغطي، وقد تكون بعض الزوايا مكاناً مناسباً لهذا الغرض، كما يمكن عرضها وسط الصالة بحيث لا تعيق حركة الزوار وإن كان المكان واسعاً فسيكون متاحاً عرضها وفق عدة تشكيلات قوسية أو مستقيمة أو غيرها، وعلى ارتفاعات متباينة فوق مقاطع عريضة من جذوع الأشجار أو على قواعد حجرية بما يتلاءم مع شكل المنحوتة وطبيعة المادة المشغولة منها.
قدمت لكم بعض التصورات التي قد يكون تحقيقها أكثر صعوبة في معارض جماعية وأقرب للوصول منها في نظيرتها الفردية، ولكننا لن نعدم الحلول للوصول إلى أنجع الطرق وأكثرها ملاءمة بحيث تساير قوة الإبداع وتلبي الحاجة.
حسين صقور