الجانب المظلم من الاستثنائية الأمريكية
ترجمة: عناية ناصر
عن مجلة ذا أتلنتيك 9/5/2018
على من يجب إلقاء اللوم في قرار دونالد ترامب إلغاء الاتفاق النووي الإيراني؟ هناك الكثير من الافتراضات، افتراض أن أية صفقة لم يتمّ التفاوض عليها من قبل ترامب هي بلا فائدة، كما أن الهوس الذي لا يفارقه لإلغاء إرث باراك أوباما هو افتراض آخر، بالإضافة إلى رغبة “إسرائيل والسعودية” في منع أي تقارب بين واشنطن وطهران.
لعبت كلّ هذه الأسباب دوراً بالتأكيد، لكن يكمن وراءها شيء أكثر جوهرية، فـ ترامب ينتهك الحالة الوجودية لـ إيران من خلال الطريقة الأمريكية الاستثنائية. عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، فللاستثنائية الأمريكية معنيان مختلفان. ينطوي المعنى الأول على مسؤوليات. ولأنها قوة عالمية فريدة، ولأن تقاليدها الديمقراطية فريدة من نوعها، تتحمّل الولايات المتحدة عبئاً عالمياً خاصاً. إن اللحظة التاريخية الرئيسية في هذا السرد هي دخول أمريكا المتردّد إلى الحرب العالمية الثانية. لماذا أنفقت أمريكا الدماء والأموال لمحاربة الديكتاتورية في الأراضي البعيدة؟ لأن من أُعطي الكثير، مطالب بتقديم الكثير.
لا يشدّد المعنى الثاني على مسؤوليات أمريكا، بل على حقوق أمريكا العالمية. ولأن الولايات المتحدة استثنائية، يجب أن تتمتّع بحرية استثنائية كي تتصرف بما تراه مناسباً. في هذه الرواية الثانية، فإن اللحظة التاريخية الرئيسية هي رفض أمريكا الانضمام إلى عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى. وقد تحتاج دول أخرى قيود المؤسسات الدولية والقانون الدولي، لكن الولايات المتحدة يمكن لها، بسبب تقاليدها الديمقراطية العميقة والأخلاق المتأصلة، أن تضع قواعدها الخاصة، إنها لا تحتاج إلا أن تردع نفسها.
لا يتعارض المعنيان مع بعضهما، حيث يستحضرهما معظم الرؤساء بدرجات متفاوتة. يميل جورج دبليو بوش نحو الرواية الثانية، فقد أعفى الولايات المتحدة من بروتوكول “كيوتو” بشأن تغيّر المناخ، واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، والمعايير العالمية ضد الحرب الوقائية، لكنه يعتقد أيضاً أن الولايات المتحدة تتحمّل مسؤولية خاصة في التحدث نيابة عن المظلومين في محاربة الفقر والإيدز في العالم.
يميل أوباما أكثر نحو المعنى الأول، حيث أقرّ بخلاف بوش، أن أمريكا – باعتبارها أكبر ملوث في العالم وأكبر منتج للأسلحة النووية- تتحمّل مسؤولية خاصة في قيادة الجهود العالمية للحدّ من غازات الاحتباس الحراري ومخزونات الأسلحة. ولكن بالنسبة لأوباما أيضاً، فإن القوة الاستثنائية لأمريكا، ومنظومتها الأخلاقية الاستثنائية المفترضة، تمنحها الحق في إعفاء نفسها من القانون الدولي. لم تكن حكومة أوباما لتؤيد حق الحكومات الأخرى في تنفيذ عمليات خارج نطاق القانون عن طريق الطائرات من دون طيار، في دول تقع في الجانب الآخر من العالم، لكنها فعلت ذلك بشكل متكرر.
إن ما يجعل إدارة ترامب مختلفة هو أنها تريد كل “استثنائية الحقوق” دون تحمّل أية “مسؤولية استثنائية” فعلياً. كان الموضوع الأساسي في حملة ترامب هو أن تتحمّل الولايات المتحدة عبئاً كبيراً في حماية الدول الأخرى. إنه يزدري المساعدات الخارجية، وكذلك قناعة أوباما أن على أمريكا التزاماً أخلاقياً تجاه اللاجئين. في كلمته أمام الأمم المتحدة في أيلول الماضي، استحضر ترامب عبارة “السيادة” 19 مرة. ورغم أنه نفى أن يكون القانون أو الأعراف الدولية ملزمة لسلوك الولايات المتحدة، إلا أنه حاضر في خصوم أمريكا مثل إيران وكوريا الديمقراطية وسورية وفنزويلا حول كيفية إدارة شؤونهم الداخلية.
قد يكون مستشار الأمن القومي الجديد، جون بولتون، أكثر تطرفاً، إذ لديه تاريخ طويل في دعوة الولايات المتحدة مهاجمة دول أخرى، بما في ذلك العراق وإيران وكوريا الديمقراطية. وفي الوقت الذي يرفض فيه سيادة خصوم أمريكا، يغار جداً على سيادة أمريكا. لقد قضى حياته المهنية في الواقع مدعياً بأن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى الالتزام بالقانون الدولي أو حتى الاتفاقيات الدولية التي وقعتها من قبل، فقد لعب بولتون دوراً رئيسياً في انسحاب إدارة بوش عام 2001 من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية مع روسيا. كما عمل بقوة على إضعاف المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، وحتى معارضة تحقيقها في جرائم الحرب في دارفور لأنه يخشى من أن مثل هذا العمل قد يساعدها ذات يوم على اكتساب الشرعية لمقاضاة الأمريكيين. وقد صرح بولتون في العام الماضي قائلاً: “يجب على قادتنا ألا يتوقعوا وألا يسعوا إلى الحصول على موافقة ذوي الشأن في المجتمع الدولي”. وهي طريقة شريرة تقول يجب على الولايات المتحدة أن تحبط الجهود الدولية لحماية البيئة أو حقوق الإنسان. وفي معرض شرحه العام الماضي لماذا يتعيّن على الولايات المتحدة “دفن المحكمة الجنائية الدولية في مهدها” بدلاً من السماح لها بالتحقيق في الاتهامات الموثقة بالتعذيب ضد القوات الأمريكية في أفغانستان، أصرّ بولتون على أن “الولايات المتحدة فعلت أكثر من أي دولة أخرى لغرس احترام حقوق الإنسان وقوانين الحرب لدى مواطنيها العسكريين الخاضعين للرقابة… الولايات المتحدة قادرة تماماً على تطبيق قوانيننا الخاصة على سلوكهم. لا تحتاج هذه القوانين والإجراءات إلى تقييمها من قبل المحاكم الدولية. “هذا الكلام لرجل يضغط على جينا هاسبل في إدارة وكالة المخابرات المركزية، التي كشف عن إشرافها على التعذيب والمساعدة في تدمير الأدلة التي توثقه”.
قرار إدارة ترامب انتهاك الاتفاقية الإيرانية بشكل صريح، ومطالبة إيران بالتفاوض على اتفاقية جديدة أكثر قبولاً لدى الولايات المتحدة، هو مثال صريح على هذه “الاستثنائية في الحقوق”. لا يقول ترامب وبولتون إنه من المقبول أن تتهرّب الدول الأخرى من التزاماتها الدولية. في الواقع، لقد قاما بمهاجمة أعداء أمريكا مثل كوريا الديمقراطية وإيران بذريعة قيامها بالتهرب من التزاماتها بالفعل. إنهما لا يقولان إن القانون الدولي لا يهم. عندما يتعلق الأمر بالعسكرة الصينية في بحر الصين الجنوبي، يكون ترامب سعيداً بالتمسك بالقانون الدولي. ما تقوله إدارة ترامب، في الجوهر، هو أن القانون الدولي والالتزامات الدولية يجب أن تقيد الدول الأخرى، ولكن ليس الولايات المتحدة.
لم يصدق باراك أوباما ذلك. لم يكن يصدق ذلك لأن تجربته كأمريكي من أصل أفريقي، ومعرفته بسياسة الولايات المتحدة الخارجية في إندونيسيا، حيث أمضى جزءاً من طفولته، جعل من المستحيل عليه أن يعتقد أن الحكومة الأمريكية تمتلك بعضاً من العدل الحقيقي.
بالنسبة له، ما يجعل أمريكا استثنائية هو قدرتها على تجاوز تاريخها البشع. وعلى النقيض من ذلك، فإن ترامب وبولتون، ربما لأنهما رجلان أبيضان لم يعيشا أبداً خارج الولايات المتحدة، لم ينظرا لذلك التاريخ بجدية، وعندما سُئل بولتون عن الجنرال أوغستو بينوشيه الذي قتل الآلاف بعد أن ساعدته وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة بالزعيم المنتخب ديمقراطياً في تشيلي، قال بولتون ذات مرة: “لقد قرّر التشيليون خيارهم، وتعايشوا معه”، فحتى عندما تكون أمريكا مسؤولة عن الديكتاتورية والموت، فهي غير مسؤولة!.
في أوائل الحرب الباردة، عندما كانت حكومة الولايات المتحدة تحظر عضوية الحزب الشيوعي، وكان المفكرون المتشددون يقترحون حرباً وقائية ضد الاتحاد السوفييتي، حذّر عالم اللاهوت راينهولد نيبور من أن “الكبرياء والاعتزاز الأناني للدول القوية هو أكبر خطر عليها من خصومها”. هذا تأبين جيد للاتفاق مع إيران. تقاد الولايات المتحدة اليوم من رجال معزولين معتدين بأنفسهم يطالبون الدول الأخرى الوفاء بالتزاماتها تجاه الولايات المتحدة بينما ينكرون أن على الولايات المتحدة التزامات مقابلة، بوجودهم فإن الاستثنائية الأمريكية تشكّل خطراً على العالم.