ابن زيدون تحت مجهر وهب رومية
هجوم عنيف يشنه د. “وهب رومية” على الشاعر الأندلسي “ابن زيدون” العاشق الارستقراطي، كما يلقبه “رومية” في كتابه “شعر ابن زيدون-قراءة جديدة”. الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
أشعار “ابن زيدون” ستكون تحت مرقاب خبير بأحوال الشعر، حيث سيضعها رومية على طاولة التشريح النقدي، مُعملا مبضعه اللغوي والفكري فيها، ولن يكون نصيب “ابن زيدون” من وزنة الشعراء،إلا خفيف الحمل متباعد الأثر.
يبدأ الكتاب بمرور سريع على الزمن الذي عاش فيه “ابن زيدون” في الأندلس، زمن “ملوك الطوائف”، الزمن الذي سبق انهيار حاضرة العرب الأجمل في العالم وضياع هيبة الإسلام فيقلب أوروبا؛إنه زمن التناحر السياسي بين الإمارات الأندلسية، زمن الدسائس وقلة الدراية وحكم الجهلة،إنه زمن شكا فيه المظلومون والمضطهدون والفقراء ولكن دون مجيب..
في هذا الزمن سيبرز اسم الشاعر “ابن زيدون” كشاعر متعدد الفنون والمواهب،فها هو يحظى برضا العديد من ملوك الطوائف المتناحرين فيما بينهم،وها هو يرفل في النعيم الملكي، بعيدا عن أحوال البلاد والعباد،وهاهي الأندلس تئن من جراحاتها، ولكن هل وصلنا هذا من شعره أيضا؟ بمعنى هل نقل ابن زيدون في أشعاره شيئا من أحوال ذاك الزمن المضطرب أخبرنا فيه عن أحوال الناس وطبيعة الحياة، عندما مدح ورثى وتغزل، شأنه في ذلك شأن كل الفحول “المتنبي – أبو تمام – أبو النواس وغيرهم” أم أنه اكتفى بكونه شاعرا للبلاط، متخذا من غزله بـ “ولادة بنت المستكفي”، مطية لقصائده التي سوف تدخل القصور من أوسع أبوابها وتتربع بدهاء على عرش الشعر؟.
يجيب رومية بـ: “هيهات أنى لابن زيدون هذا المجد؟” معتبرا أن من أراد أن يلحق شعره بالمتنبي أي تشبيهه به، إنما هو في الحقيقة يلهو به أو بتعبير أبي الطيب نفسه: إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق –أراه غباري وقال له الحق.
عمد د.رومية في كتابه الآنف الذكر،إلى تبويب أعمال الشاعر بثلاثة عناوين عريضة وهي: قصيدة المدح،وقصيدة الرثاء، القصيدة الذاتية،حيث ستحاكم تلك القصائد محاكمة شاملة بدءاً من مناسبتها مرورا بأغراضها الشعرية وليس انتهاء بالإيحاءات المخبوءة التي تكتنفها تلك الأبيات الشعرية بين ثناياها.
قصيدة المدح
بعد عملية إحصاء دقيقة قام بها د. رومية لمجمل أبيات شعر ابن زيدون، تبين له أنه أمام مدّاح محترف يقف في الصفوف الأولى من بين الشعراء المّداحين على امتداد التاريخ الشعري،فنصف شعره ذهب إلى المدح،أضف إلى ذلك أنه شاعر من الشعراء الجوالين الذين يجوبون الأرجاء يعرضون بضاعتهم من المديح لمن يشتريها،يقول رومية:”لقد نصب سوقا للمديح في كل ارض وطئتها قدماه في قرطبة،اشبيلية،بطليوس، وراجت بضاعته في تلك الأسواق جميعا” إذا صورة الشاعر العاشق ليست بالصورة الصحيحة لابن زيدون،وليس من صحيح الحال انه هام عشقا وذاب منشدا وصل الولادة.
يرى الكاتب أن مدائح ابن زيدون الكثيرة لم تكن تعبر عن موقف من القضايا العامة التي تواجه الناس،أو تكشف عن قوة الحدس العميقة والنظرة الثاقبة التي عرفت بها قصيدة المدح عند الفحول. وهذا ما سوف يلمسه القارئ لأشعار ابن زيدون في قصائده المدحية، فهي في معظمها شاحبة في دلالتها الإنسانية حتى توشك أن تنطفئ فيها تلك الدلالة، ولسوف يلاحظ أيضا أن دلالتها التاريخية غامضة لانقطاعها عن الحياة وما حولها،وما تفور به وتغلي من الأحداث التي عصفت بعصر الشاعر إلا من النادر.
وهنا يقارن “رومية” بين قصائد المديح التي تموج بالحياة وأحداثها التي تتدافع من حولها كما السيول كما في قصائد المتنبي وأبو تمام والبحتري وكبار شعراء العصر العباسي الذين احتفل بهم الأندلسيون أيما احتفال.
قصيدة الرثاء
القصيدة التي طافت شهرتها أضعافا مضاعفة مما عرفته أختها قصيدة المدح،وكان للشعراء فيها منذ العصر الجاهلي “الذي سمي بهذا الاسم انتقاصا لقدره،فكيف يكون جاهليا وهو عصر عرف أهله القراءة والكتابة؟” مذاهب معروفة فيها.
يرى أستاذ الأدب القديم في جامعة دمشق، أن ابن زيدون لا يصلح للمراثي ولا يطيق لها صبرا،فالرثاء يقتضي الإحساس بالفجيعة ولوعة الحزن والتفكير في الموت وما يخالطه من مظاهر الطبيعة وأحداث الدهر وعمق التأمل في الفناء والحكمة وما يلابسها من حزن عميق،وهذا بعيد كل البعد عن ابن زيدون فهو سجين وعيه ومصالحه الضيقة.
يقول رومية في كتابه: “من غريب أمر ابن زيدون وعجيبه أنه قال مرثية في والدة أبي الوليد محمد بن جهو،ثم تقاذفته حوادث الأيام وصار إلى المعتضد يتفيأ دوحته فلما قُبض والد المعتضد رثاه ابن زيدون بقصيدة طويلة،فإذا صدر هذه القصيدة هو عينه صدر مرثيته في والدة أبي الوليد. ويخلص رومية إلى أن ابن زيدون يضيق بالرثاء لا تكاد تنعقد نفسه عليه وقد كان تاجرا حصيفا،يرى السوق منصوبة فيعز عليه ألا يبيع.
القصيدة الذاتية
يوضح د.رومية، أن ما ذهب إليه توصيفه للقصيدة الذاتية،بأنها القصائد التي قالها ابن زيدون في الشكوى والحنين والغزل،بصرف النظر عن مدى تحقيقها لمعايير الذاتية أو الأصالة المتأتية من صدق التجربة وحرارتها ولمساتها المتميزة.
يورد المؤلف العديد من قصائد ابن زيدون الذاتية سواء تلك التأملية منها أو الغزلية، خصوصا بعض القصائد التي كتبها في السجن والتي ناشد في أكثرها الحكام لإطلاق سراحه بعد أن تبين أنه كان مشتركا بفتنة قرطبة وما جرى بعدها من أحداث دامية،ويقوم “رومية” بإجراء اختبار موضوعي لمواصفاتها الفنية المعروفة في قصيدة العمود، ليجد أن الأصالة هي ما ينقص ابن زيدون،الذي اتكأ في أشعاره على الكثير من المقاطع والجمل الشعرية لكبار الشعراء،وعرف كيف يوظفها بدهاء في قصائده.
هذا ما سيلاحظه أيضا القارئ لأعمال ابن زيدون،فمن النادر أن تخلو قصيدة له من مطلع لقصيدة مشهورة، أو من جملة شعرية لشاعر من الفحول.
كتاب “شعر ابن زيدون” لـ د. وهب رومية، من الكتب القيّمة التي تذهب نحو تفكيك بنية القصيدة ومحاكمتها محاكمة شعرية منطقية، بعيدا عن أي استلاب للمشاعر أو مصادرة لها، إنه نقد شعري موضوعي قائم على الاستبيان والدلالة والمماحكة التي تمرس فيها د. “رومية”من خبرته الطويلة بعالم الشعر وأهله الميامين.
تمام علي بركات