الحلقة الناقصة في سلسلة صقل المهارات.. تبحث عمن يجدها… الرياضة الفكرية.. حضور اسمي في المؤسسات التربوية.. وغياب عن المناهج التعليمية
بالتفكير في الأولويات التي تلي الحرب، أي هاجس سيفوق هاجس بناء الإنسان مجدداً، وإعادة إحياء الأمل للجيل الذي عانى ويلات الإرهاب، وكان شاهداً على التخريب والدمار؟! أي هاجس سيكون أكثر إلحاحاً من بناء شخصية طفل واثق متزن يخطط، ويفكر، ويضع الأهداف، ويرسم التكتيكات والاستراتيجيات، طفل يبرع في عمليات الحساب، والمنطق، وغيرها من المواد العلمية، والتعليمية، تلك المواد التي غالباً ما تكون أمراً مملاً ومعقداً بالنسبة للكثير من الطلاب والأطفال في مدارسنا؟!.
ولكن هل تبقى كذلك حين نربط التعليم بهواية أو لعبة ترفع مستواه، وتوفر لطفل المستقبل كل الجوانب السابقة؟ لماذا لا يكون “الشطرنج”، مثلاً، إحدى تلك الطرق والخطط المعتمدة التي تساهم في تطوير منظومة التعليم والتربية، وهي خطوة أدركتها مسبقاً دول ومنظومات تربوية، ومناهج كثيرة، فراعت أن يكون للعبة المفكرين والأذكياء، وتلك الرياضة الذهنية، حضور في مناهجها؟ لماذا لا نقتفي الأثر ذاته إن كنا نطمح بتعويض ما فاتنا خلال سنوات الحرب والدمار؟ وما هو واقع هذه الرياضة الفكرية، وغيرها في مؤسساتنا التربوية ومدارسنا، ومراكز الأنشطة التدريبية وتنمية الهوايات؟.
تجارب تدريب ناجحة
لعل من المهم قبل بدء البحث في واقع الأنشطة الرياضية، والفكرية في مناهجنا التربوية، وتخصيصاً لعبة الشطرنج، الحديث عن تجارب ناجحة اعتمدتها مجموعة من الدول في هذا الشأن، فمنذ عام تقريباً تعمل وزارة التعليم والعلوم الروسية على إدراج الشطرنج كمادة رئيسة في مناهجها التعليمية لتصبح مادة إجبارية من الصف الأول حتى الرابع، بمعدل حصة أسبوعياً، وبحسب الوزارة، إدراج اللعبة في المنهاج المدرسي لن يتطلب كفاءات إضافية للمعلمين، فتعليمها بسيط وسهل، ويستطيع أي معلم تنفيذه بعد اتباع التوصيات المنهجية، وكذلك عملت وزارة التربية والتعليم الإماراتية في وقت سابق عام 2015 على اعتماد رياضة الشطرنج كمادة اختيارية للطلبة والطالبات في مدارس التعليم الأساسي، بما فيها النموذجية، بوصفها من أهم الرياضات الذهنية عالمياً، وذلك بموجب اتفاقية تعاون مع اتحاد الشطرنج الدولي لمدة أربع سنوات، واليوم تدرس قواعد اللعبة أربع ساعات أسبوعياً، كجانب اختياري للطلاب في مراحلها الأولى، والملفت أن الشطرنج مادة إلزامية في مناهج دول أخرى كالهند والصين، وفي مدارس أرمينيا هي كذلك أيضاً منذ عام 2011، وبحسب الرؤية في تلك الدول، فرياضة الشطرنج تساهم في بناء الشخصية، وليس اكتشاف المواهب الشابة فقط، وكذلك فإن جلب الهواية التي يُفضّلها الطلاب إلى الفصول الدراسية سيعمل على تنمية الشعور بالمسؤولية والنظام، وتعزيز الثقة بالنفس، والتفكير الإبداعي والمنطقي، فليس عبثاً إذاً أن تنفق أرمينيا حوالي 3 ملايين دولار لإنجاز التعليم الأكاديمي للشطرنج، من إعداد كتب مدرسية، وتدريب معلمين، وشراء معدات، وتجهيز أثاث للقاعات الدراسية، وإضافة لهذا كله ينظر للشطرنج في دول أخرى كلغة في حد ذاتها، وتستخدمه السويد كوسيلة مساعدة على الاندماج بين الطلاب.
واقع تربوي مخالف
وبالعودة إلى مدارسنا، وواقع الأنشطة الرياضية فيها، فرغم المحاولات المستمرة التي تبذل لتنمية الجزء المتعلق بالإبداع والتفكير عند الأطفال في مؤسساتنا التربوية، لاتزال النظرة المسبقة بالنسبة لحصص الرياضة، والأنشطة بأنها فترة الاستراحة والراحة عند الطلاب، والأهل، وحتى بعض المعلمين، ولاتزال حصة الرياضة تختصر بنشاط لعبة كرة القدم، وتحتضر فيها باقي الأنشطة والهوايات، ومعها الشطرنج، فالقلة القليلة من الطلاب يعملون على تنميتها وتطويرها، وكان ملفتاً عند زيارتنا للدكتور عماد منصور، منسق مادة التربية البدنية والرياضة في مركز تطوير المناهج بوزارة التربية، أن نعلم أن للشطرنج مناهج تعليمية تم إعدادها منذ زمن طويل، وتتضمن شرح قواعد، ووضع خطط واستراتيجيات للعبة، لكنها للأسف غير معتمدة، ومؤخراً تم وضع مناهج جديدة للرياضة المدرسية تلحظ هذا الموضوع، وفيها دروس شطرنج، وزعت على كافة الوحدات في الصفوف: الأول، والرابع، والسابع، والأول الثانوي، وكان مقرراً أن يتم توزيعها كنسخة تجريبية للمعلمين، ومن ثم تعميمها، وهي بحسب منصور على صفحة المركز الوطني كمسودات، لكنها كذلك لم تُفعل عملياً، ويتحدث د. منصور بأنه تم منذ مدة أيضاً إعداد وثيقة معايير وطنية لمادة التربية البدنية والرياضة بتأليف فريق علمي وطني، من الصف الأول الأساسي، وحتى الصف الثالث الثانوي، وتم العمل على إدخال عشر ألعاب منهجية مختلفة معتمدة من وزارة التربية، بما فيها لعبة الشطرنج، أو رياضة الشطرنج الذهنية، وكذلك كرة القدم، السلة، الطائرة، الطاولة، والريشة الطائرة، والجمباز، وألعاب القوى، والسباحة، ويمكن النظر لهذه الوثيقة على أنها خارطة الطريق لرسم الرياضة المدرسية من خلال تأليف كتب للمادة والطلاب والمعلمين.
تعليم بمهارات حركية
الفكرة بإدخال الشطرنج كانت بحسب د. منصور جاهزة في وقت سابق، وتم إدخالها من الصف الأول إلى السادس، مع العلم أنها معتمدة سابقاً من الوزارة، ولكن يتم تفعيلها فقط في البطولات المدرسية دون أن تدرس، وكان هناك اقتراح لإدخالها في الصف الأول عن طريق مهارات حركية في الباحة، بحيث ترسم القطعة أو رقعة الشطرنج على أرضية الباحة، ويكون الطلاب أنفسهم القطع، أو الأحجار الخاصة باللعبة، وذلك لتنمية مهاراتهم الحركية والفكرية، وتعليمهم الهدوء، وضبط الانفعالات، والسيطرة على الذات، ورفع مستوى الذكاء، وفعلاً تم تجريب هذه الفكرة في بعض المدارس، ولكن كأية فكرة جديدة هناك دائماً أشخاص رافضون، وآخرون معرقلون يضعون العصي بالعجلات، فأجهضت الفكرة، واليوم هناك رغبة ملحة بإدخالها بشكل أوسع، ولكن من خلال أنشطة لاصفية خارج أوقات الدوام الرسمي أو في المراكز التدريبية المعتمدة، فالتجارب والمقارنات التي لاحظناها هي بين من يلعب اللعبة وسواهم في طريقة التفكير والتفوق الدراسي في المواد الأخرى، والمهم، بحسب د. منصور، تفعيل هذه المادة ومواد الأنشطة بشكل مكثف بعد الأزمة، لأنها مادة تعزز الثقة لديهم، وتدعم الجانب النفسي الذي مر به الطلاب من خلال ممارسة الأنشطة البدنية بشكلها الصحيح، ولأنها تستثمر الطاقات الإيجابية المثلى للطلاب، وتبعدهم عن كافة عوامل الانحراف والجريمة.
قلة مراكز ومدربين
للأسف لا توجد، بحسب منصور، مراكز تدريبية كافية للعبة، وازدادت الأمور صعوبة بسبب الحرب، كذلك لا يتوفر الكادر والوسائل التعليمية والأدوات المطلوبة بشكل مناسب، وبالنسبة للكادر يبرر د. منصور هذه المشكلة باعتبار أن مدرّسي ومعلّمي التربية الرياضية لا يدرّسون الشطرنج في المنهاج التعليمي، ما يتسبب بصعوبة في توفر الكادر التدريبي للعبة، وفي حال تم إدخالها بشكل رسمي للمدارس، واعتماد أو تفعيل المنهاج الخاص بها، سنحتاج لتدريب أو تأهيل الكادر التدريسي قبل ذلك، ويجب أن نفكر في إدخال الشطرنج لمناهج المعاهد ليصبح المدرّسون قادرين على إعطاء المادة للطلاب، فاليوم معظم المدرّسين غير مؤهلين، ويؤكد د. منصور: رغم هذا الواقع، وكل ما تقدم ففي وزارة التربية هناك دائماً بطولات مدرسية تقام على مستوى الجمهورية المركزية كل عام بكافة الألعاب، ومنها الشطرنج، وهناك أبطال مدارس معروفون على مستوى سورية، ويمثّلون سورية في البطولات العربية والدولية، ومنهم مثلاً ديمة الخطيب، ويختم: التفوق في الرياضة هو تفوق في كل المجالات، والشطرنج طريق للتفوق الرياضي والعلمي، والرياضة فعلاً لا يمكن اختصارها بكرة القدم.
تبريرات لنتائج متأخرة
وإذا كان الشطرنج في طور التخطيط لإدخال موسع في مناهجنا التربوية، يبدو أن اللعبة مازالت أيضاً في مراحل متأخرة على مستوى التنافس العالمي، وبحسب علي عباس، وهو بطل جمهورية وحكم دولي سابق، ومدرب دولي حالي للعبة في الاتحاد الرياضي، فإن وضع الشطرنج في سورية حالياً هو بمرحلة بناء وإعداد جيل جديد قادر على رفع اسم سورية، ووضعه في المنافسة، بعد أن أرخت الأزمة بظلالها على واقع اللعبة، وحالت دون تقدمها لعدة عوامل أبرزها: قلة المراكز التدريبية، فعدد المراكز الحالية التابعة للاتحاد الرياضي هو 10 فقط، رغم تقديم مقترح للمكتب التنفيذي لإعادة النظر فيها كون عملها بحاجة لإعادة توجيه وتغيير معايير كثيرة، إضافة لهجرة لاعبي الصف الأول والثاني من لاعبي النخبة خارج البلد، ما انعكس سلباً على تطور المستوى، وترتيبنا في آخر اولمبياد كان متأخراً جداً، ورغم حصولنا على ذهبية المجموعة “d” في الاولمبياد الأخير، إلا أن هذا لا يعكس حقيقة المستوى الفني للعبة، ولا يمكن أن نختبئ خلف اصبعنا بالتقييم، فالمجموعة d تسبقها ثلاث مجموعات a.b.c، لذلك يمكن القول: نحن بطليعة الصف الرابع عالمياً، شطرنج أنثوي، والخامس شطرنج رجال، وأؤكد أن الصف الرابع والخامس لا يعني أن ترتيبنا رابع وخامس، بل المقصود حسب المستوى: “مستوى أول وثان وثالث ورابع وخامس وسادس”.
مرحلة إعداد وتأهيل
المدرب علي عباس أكد أن هناك جهوداً كبيرة تبذل اليوم للنهوض بواقع اللعبة من خلال الاعتماد على الفئات العمرية الصغيرة التي ستكون اللبنة الأساسية بعملية البناء القادمة، والشعب السوري لا ينقصه الذكاء ضمن هذا الإطار، فلدينا إمكانيات كبيرة جداً، ونعمل حالياً لتقديم دراسة لوزارة التربية لتأهيل مدرّسين قادرين على النهوض باللعبة بمدارسنا ليأتي الطالب للنادي ويأخذ الجرعة الاحترافية، مع توفير الجهد والوقت الكبير، إضافة لكونه تعلّم بشكل أكاديمي بالمدرسة، ففكرة التواجد العالمي والتنافس عالي المستوى بحاجة لتأهيل جيل صغير السن مع مدرب كفء، واحتكاك مناسب، وحافز، وهذا بحاجة لعمل وجهد لا يقل عن أربع سنوات لجني النتائج على صعيد الصغار، لا أن نخدع أنفسنا بالتغني ببطولات على المستوى المحلي أو العربي، ثم ينكشف المستوى عندما نشارك ببطولات آسيوية وعالمية، لضحالة المستوى العربي، وما حرماننا من المشاركة ببطولات العرب إلا وسام على صدر كل سوري، لأنه جعلنا نرى مستوانا الحقيقي بشكل منطقي وعقلاني.
تكامل تربوي وتدريب
وبحسب المدرب عباس تم مؤخراً إنجاز دورتي تدريب وتحكيم دوليتين لتأهيل كوادر، وتم تأهيل حوالي 60 مدرباً بشهادة دولية مختلفة، كما نعكف حالياً على تقديم تسهيلات للعمل التدريبي الخاص بما يخدم اللعبة، وعن التكامل مع وزارة التربية أكد: نحن بصدد تنسيق كامل مع مديرية تربية دمشق، ووزارة التربية لتأهيل كادر مختص، وعملي كموجه تربوي يساعدني حالياً على تطبيق الأفكار البناءة بهذه الحالة، وحالياً نحن بصدد التجهيز لمهرجانات شعبية بالحدائق لنشر اللعبة بمعدل تظاهرة جماهيرية للأطفال مع ذويهم بحديقة عامة، وهذا ما ستتبناه وزارة التربية لنشر اللعبة وإخراجها من منظور الناس كلعبة فقط للتسلية، لأنها في الواقع لعبة تؤثر بنسبة تصل لـ 80% على تحصيل الطالب المدرسي بمجرد ممارسته للعبة، وليس شرطاً أن يكون بطلاً فيها، فبمجرد ممارسته للعبة تجعل تحصيله المدرسي يتحسن لحوالي 80% إيجاباً، ومن خلال لعبة الشطرنج يمكن أن نقدم تفصيلاً كاملاً لحالة الطفل النفسية بمجرد مراقبته لفترة زمنية بسيطة، حيث إن لعبة الشطرنج تكون بالنهاية مقياساً نفسياً رائعاً لكشف أعقد الشخصيات، وبالتالي إمكانية تفادي مشكلات قد تقع مستقبلاً عبر هذه اللعبة البسيطة السهلة المعقدة، ويختم عباس “بالحديث عن مشروع بكرا النا الذي يتضمن تعليم ونشر لعبة الشطرنج بنفسي، وهو صورة مصغرة لمشروع شطرنج موسع أحلم بتطبيقه بكل سورية”، فالمشروع سينعكس إيجاباً خلال السنوات القادمة بشكل كبير، وسنلمس نتائجه.
رعاية بذور الموهبة
وربما يكمن النجاح الذي ننشده في نشر ثقافة الألعاب الذهنية كالشطرنج وغيره بوجود آلية لاكتشاف الموهبة عند الطفل، وتشجيعه على تنميتها، وهو ما يتحدث عنه المدرب بشار مصطفى، وهو مدرب تربوي متخصص في الشطرنج، فيقول: تنمية موهبة الطفل بعد اكتشافها تكون من خلال توفير جو مناسب، وتقديم الأدوات اللازمة، ومرافقة الطفل إلى أماكن تساعده على التطور من خلال لقاءات ومشاركات، والتركيز على عدم السخرية والاستهزاء، لأن ذلك يفقده الثقة بنفسه، ويجعله يشعر بالخوف والخجل، فتشجيع الطفل على التحليل بنفسه بلعب الشطرنج يعزز قدراته العقلية، ويؤكد مصطفى: علينا الاهتمام بتحضير الموهوبين على المدى البعيد، ووضع خطط وبرامج، ومتابعتها كهدف أساسي استراتيجي عبر تحديد مكامن القوة والضعف، وتحديد الإيجابيات والسلبيات، وإعداد اللاعبين وفق أسس علمية أهمها الاستمرارية، وإشراكهم قدر الإمكان في لقاءات مستمرة تقيم اللاعبين بعد كل مرحلة، وعن أبرز الصعوبات التي تواجه عمل مدربي اللعبة يقول مصطفى بأنها تتمثّل في عدم وجود منهاج معتمد طويل الأمد، وقلة الاحتكاك والمشاركات، وانعدام الحوافز، وقلة التدريب لعدم القدرة على التوفيق بين الشطرنج والتحصيل العلمي، وختم: هناك مجموعة شروط ينبغي على كل مدرب إتقانها، منها القدرة على قراءة كل لاعب، ومعرفة شخصيته، وأسلوبه، والقدرة على تحديد نقاط ضعف اللاعب، ومعالجتها، والقدرة على إيصال المعلومات بالشكل الأمثل والأسهل، وتعلّم اللاعبين الهدوء، وضبط النفس، والروح الرياضية.
محمد محمود