ثقافةصحيفة البعث

فلسفة الغبار في “طاحونة” حسين عبد الكريم

هل تحتاج الرواية إلى حامل لكي تتقدّم إلى القلوب والعقول بخطوات واثقة، أم يكفي الرواية أنها سرد حكائي لحياة شريحة من الناس عبر مجموعة من الشخصيات يسند لها الوصف والحوار ويقوم البناء الفني فيها على عنصري التشويق والصراع؟ ومما لا شك فيه أن الرواية التي تخلو من هذين الشرطين لنجاحها تغدو شيئاً آخر غير الرواية.

قبل أي محاولة للوصول إلى معرفة طبيعة هذه الفلسفة التي جعلها الأديب حسين عبد الكريم عنواناً ثانياً لروايته الجديدة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات وفي المقدمة أننا أمام رواية مختلفة عما سبق من روايات من حيث الشكل والمضمون، وهذا المختلف ليس ما يحسب للرواية بمقدار ما يحسب عليها في بعض الأحيان، ولكنها رواية القاع السوري في مرحلة من مراحل تطوره والمعاناة التي كان يعانيها هذا القاع بفعل فاعل غريب، وبعض من هذه المعاناة تواصل وهو مستمر على يد الغريب، حيث أن اللعين الجديد كثيراً ما تشابه مع اللعين القديم الذي كان سبب الكثير من الأذى للبسطاء الفقراء المعدمين الذين لا حول لهم ولا قوة: “ازداد الملاعين  في السهل والحارات والمدينة وصار واحدنا لا يعرف من هو الصالح من السيئ ولا من هو اللعين الذي ينشر الفتن ولا من هو اللئيم القادر على بث الأحقاد والسم في النفوس” ص 431 .

ونحن أمام رواية طويلة من حيث الشكل، إن لم تكن أطول رواية سورية قرأتها حتى الآن، فقد تجاوز عدد صفحاتها الخمسمائة صفحة بقليل، وأمام رواية حفلت بعشرات الأسماء وبعضها غريب ومحلي ويحتاج القارئ إلى ملكة وذاكرة تؤهله المتابعة وفرز الأسماء، عن الألقاب، عن الكنى. وأمام رواية تاريخية تؤرخ على الأقل محليا بمرمزات لا يعرفها إلا أبناء المنطقة (حرب الواحات) وربما بعضهم العارف أو المختص أو المتابع، ولهذا التاريخ المحلي جغرافيته: نبع الينابيع، حارة المراعي، والمكارين، ضيعة الحارات. وفي الرواية حكايات حب لعشاق أوفياء في ثنائية  تبدأ بسليمان وسوادة ثم سدرة ثم زواجه من ريحانة  وولد النموزة وحبيبته فريدة، وقنديل حبيبته وعارف وهند تحسين السليم، وبعضهم خرج عن القاعدة. وجعل  للشر رموزاً من أفراد وعائلات امتهنت الاعتداء على الضعفاء، ومثلما تفضح الرواية هؤلاء تلقي الضوء على الرجال الأشداء الذين يهبون لمناصرة الضعفاء في محاولة لإظهار قيم النخوة والشهامة والمروءة، وهي قيم أصيلة في المجتمع السوري عامة وفي قاع هذا المجتمع على نحو خاص.

“الطاحونة” عنوان الرواية يحمل الرمز والحقيقة، فهي عند وقافها الأول سليمان البركاتي تطحن القمح لتحيله إلى دقيق وخبز، وهي في الرمز تطحن الناس بصيرورة تاريخية فكلهم مسحوق تحت رحاها، مغلوب على أمره، يتطلع إلى أن ينجو من القحط وانحباس المطر لسنوات، ولا أدري ما إذا قصد الكاتب سنوات بعينها تلك التي مرت على سورية كلها أم أشار إلى انحباس المطر بشكل عام، وهذا يعيدنا إلى الجانب التأريخي في الرواية حيث لم يربط الكاتب الحدث بزمانه، بل ترك للقارئ أن ينشغل  في معرفة هذا التأريخ، وكأن فلسفة الغبار تمتد من عمق المعاناة إلى عمق المعرفة.

الغبار هنا ليس غبار الطاحونة وحده على قساوة هذا الغبار وما يمثله من ألم ومعاناة لجموع الفلاحين الساعين بكل قواهم الواهنة إلى تأمين لقمة عيش كريمة بعيدة عن النهب والسطو والذل والمهانة، فالدرك قادرون على مصادرة الدخان والقمح تحت أية ذريعة، ومن ينجو من سطوتهم يكون قد فاز فوزاً عظيماً.  بل يكاد الغبار أن يكون نتاج ربيع الخراب، أو حين الوحوش تهجم على حارة المراعي، أو حين تقطف الحارات آخر أوراق الدخان. أما عندي فإن الغبار هو في غياب المعلمة هند تحسين سليم، فالمعلمة رمز لنهوض المجتمع وتقدّمه خطوات، وهي في الوقت نقطة الضوء في آخر النفق، فلماذا غيبها الكاتب في توقيت غير مناسب ولماذا تراخى في الكشف عن مصيرها وسبب موتها مقتولة ومرمية في البحر، هل هذا التراخي لازمة من لوازم فلسفة الغبار؟ والسؤال المشروع: هل الغبار هنا في الرواية كرمز للاشيء يساوي أو يعني العدم أو العدمية، وبالتالي يمكن لنا أن نرمي الكاتب بتعميم اليأس بدلاً من إشاعة التفاؤل وجعله فلسفة حياة، لابد أن الجواب في الرواية حيث حرص الراوي على الغناء والجلسات الحلوة والسعي الدؤوب لجني المحصول والاستمتاع بالحلوى مثل الاستمتاع بالربابة والعتابا وأناشيد الغزل.

الطاحونة رواية ريفية جبلية بل هي رواية الضيعة بامتياز، تحكي الحزن والفرح والخصب واليباس، الإنسان والشقاء والأيام، لغتها شعرية لطيفة عفوية لا تكلف فيها، لها دلالات رمزية، فهي إضافة إلى أنها تطحن القمح للناس في القرية والمدينة فهي تطحنهم وتعميهم بغبارها القديم.

الصراع في الرواية ظاهر وخفي، وهو متعدد الجوانب والأطراف، وربما غياب الأمن والأمان في تلك الحقبة الزمنية كاف لأن نعرف ماهية الصراع ونقاط ارتكازه.

رياض طبرة