لماذا كان الخامس من حزيران؟
لم يتوقّف النقاش والجدال يوماً واحداً حول الخامس من حزيران، ولم يتوقّف سيل الاتهامات المتبادلة حول الجهة التي تسببت به، والأسباب التي أوصلت إليه، والنتائج التي تمخّضت عنه، ومن هم الأطراف العلنيون والسريون الذين دفعوا باتجاهه، وماذا أرادوا من خلف ذلك، وهذا كله لا يمكن معرفته من قراءة أحداث هذا اليوم التاريخي، أو ما قبلها، فقط، على أهمية تلك الأيام وخطورتها، فهذا أمر قُتل بحثاً، كما يقال، بل من قراءة ما حدث بعدها أيضاً، أي منذ نهاية المعركة وحتى أيامنا هذه.
وإذا كنا لا ننكر أن اليوم الذي اصطلح على تسميته بالنكسة كان نقطة مفصلية في واقع عربي مزرٍ، وهزيمة منطقية لتيارات وآراء ومذاهب وسياسات مفارقة للواقع، كما يعرف الجميع، ما يفترض بنا أن نعترف بمسؤوليتنا جميعاً عن هذه الهزيمة المدوية، إلا أن الوقائع والوثائق، تؤكّد أيضاً أنه كان نتيجة لسياسات مقصودة ومؤامرات، بعضها علني، وبعضها سري، شاركت بها دول وقيادات دولية وإقليمية وعربية، انكشف بعضها، فيما تتكشف أدوار بعضها الآخر تباعاً في هذه الجريمة المكتملة الأركان.
وربما تساعدنا الوثيقة التي كشفتها الخارجية الأمريكية منذ أيام قليلة عن دور “مملكة الرمال” في تأييد “كامب ديفيد”، والسعي الحثيث لإنجاحه، في فهم أدوار البعض في نكسة حزيران، خاصة إذا ربطنا هذه الوثيقة الجديدة مع الوثائق السابقة عليها، فعلى الرغم من المسافة الزمنية بين الحدثين إلا أن الـ “كامب” ما كان له أن يكون لولا “نكسة حزيران”، بمعنى أن من خطط لـ “كامب” كان يحتاج للخامس من حزيران كي يجعل الأولى مقبولة ومطلوبة لدفع العرب لتقديم تنازلات، سعى العدو إلى أن تكون في الجذر، والاستراتيجيا، وهذا ما يفضح دور “المملكة”، ومن يشدّ على يدها في “لحظة حزيران” السيئة الذكر.
والدليل على صحة هذا القول إن الفترة التي تلت “النكسة” و”الكامب” كانت، ومازالت، الفترة التي اصطلح على تسميتها بالحقبة السعودية، وفيها ارتفعت أصوات الاستسلاميين ودعاة الواقعية، وتحوّلت وجهة القوة العربية، المادية والمعنوية، نحو أعداء مفتعلين مثل الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وهو من واجهنا “إسرائيل”، وانتصرنا عليها عام 1973 بسلاحه، والثورة الإسلامية في إيران في اللحظة التي استبدلت فيها سفارة الكيان الصهيوني بطهران بالسفارة الفلسطينية، بل ضد دول عربية أخرى بعينها مثل العراق وليبيا واليمن وسورية – نودي للجهاد في سورية من قلب القاهرة في عصر مرسي- حتى وصلنا اليوم إلى الترويج بالقوة لـ”صفقة القرن”، بالتزامن مع عهر إعلامي وتجييش مذهبي غير مسبوق دفع ببعض القوى النضالية، وبقوة إقناع البترودولار، إلى استبدال لحية ماركس بلحية الحجاج، لتكون النتيجة النهائية لكل ذلك نقل القضية الفلسطينية إلى مرتبة متأخرة على الأجندة العربية، بعد أن تزعّم العرب وقضاياهم اتباع “تل أبيب” ممن لم يعرفوا يوماً سوى دماء بعضهم البعض، وتاريخهم لا يسجّل حرباً واحدة ضد غاز أو عدو، بل هو غدر بالآباء، ومكائد للأخوّة، وولوغ في دماء الأشقاء.
هذا هو قطاف الخامس من حزيران الحقيقي، وهذه هي مسؤوليتنا جميعاً عنها، وفي ظل هذه الظروف الموضوعية المشينة، فإن معركتنا الممكنة اليوم، هي معركة إبقاء جذوة القضية مشتعلة، وإشعار الجميع، الأصدقاء قبل الأعداء، أنها لم تمت ولن تموت، فالمسألة ليست صراعاً حدودياً على أمتار هنا، وخط أخضر أو أحمر هناك، وليست قضية القدس وحدها، بل هي صراع وجود، وما الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، إلا تعبير دقيق عن فهمهم لهذه المعادلة، وما تعامي البعض منا عن ذلك سوى جهل تام بأس الصراع وحقيقته، أو مشاركة واعية للقاتل في جريمته المقصودة.
وبالتالي فإن وعي “لحظة حزيران” بكل أبعادها وآثارها الداخلية والخارجية، هو بداية تصويب البوصلة نحو الوجهة الحقيقية، وذلك دور “مسيرات العودة” اليوم، وطريق انتصارنا، ومقتل أعدائنا الداخليين والخارجيين في الآن ذاته.
أحمد حسن