الأردن.. عن اللامتوقع واللامنتظر!
قد يكون من الأجدى، ابتداءً من الآن، أن نعتاد على اللامنتظر واللامتوقع، وقد يكون ما نحتاجه حقيقة هو التفكير التشبيكي المعقد والمتعدد المستويات، والمتعدد الأبعاد، وبالتأكيد التراكبي على مستوى الزمن. لربما كانت هذه المقدمة تمهيداً ضرورياً لمقاربة الانفجار “اللامتوقع” و”اللامنتظر” – أقله في هذه المرحلة – في الأردن، لجهة أن نظام الملكية الهاشمية يبقى، وحتى إشعار آخر، مؤسسة عسكرية وأمنية تحظى بالحماية والرعاية الفائقة، وتسهر على حسن أدائها لمهامها ووظائفها أطراف “خارجية” عديدة لا حاجة لتسميتها، وهي كلها – على كل حال – غير معنية بالمصالح الوطنية الأردنية، ولا بمصالح الشعب الأردني، ولا باستقراره، ولن نقول بحقه في التصرف بأرضه وممارسة سيادته كاملة، فالأيام المقبلة قد تكون كاشفة، إلى حد كبير وخطير، بهذا الصدد!
يبدو لمثل هذا القول مبررارته في ضوء عاصفة “الاحتجاج” المخيفة والشاملة التي اجتاحت المدن الأردنية، جنوباً وشمالاً، على حين فجأة، وفي وقت كان منتظراً من شارع “ما بعد الربيع العربي” أن يتعلم أساليب احتجاجية جديدة وأكثر إبداعاً، أو على الأقل أن يتحفظ على الأساليب التي استحضرها “ربيع الإخوان”، ليلية ونهارية، بعد الخروج من الصلوات وفي أيام الجمع، وخاصة تلك الرقصات الجماعية الليلية التي لا تستطيع أن تميز تماماً ما إذا كانت فائض طاقة شبابية، أم وعياً سياسياً مختلفاً، أم “فزعة” قبائلية وعشائرية، أم كلمة السر التي تخفي وراءها هوية سلفية، وبالتحديد نوعاً من انتماء إلى جيل ثان من “داعش”، أو إلى “جبهة النصرة”؟
كل التحليلات تنحو باتجاه الأزمة الاقتصادية وارتفاع المديونية وتراجع المساعدات وتردي الوضع المعيشي وشروط صندوق النقد الدولي و”أعباء اللاجئين”، ولكن أحداً لا يمعن النظر في ذلك “الأردن العميق” الذي دعشنته الحرب الأمريكية على العراق طوال عقد من الزمن، ومن ثم صدّر فائض أزمته السياسية والاجتماعية إلى سورية، على امتداد الأعوام السبعة الماضية، من خلال قيادة “جبهة النصرة”، بطغيان مكونها الأردني، عملياتياً وإيديولوجياً، للحرب الإرهابية في مناطق جنوب وشمال سورية، وبدعم ومساندة لوجستية ومالية من غرفة “الموك”، بحيث تحولت المناطق على طرفي الحدود بين البلدين، ومعها مخيمات اللجوء، إلى ملاذات آمنة وساحات مفتوحة لأنشطة العصابات الإرهابية التي لم تتخيل للحظة واحدة أنه يمكن – ذات يوم – “تسريحها”، أو الاستغناء عن خدماتها، وبحيث لم تتوقع السلطة الأردنية الحاكمة أنها ستجد نفسها يوماً في مواجهة قد تتخذ شكل التصدي للوحش الأصولي الذي تعبت، ومعها السعوديون والقطريون والإسرائيليون والأمريكان، على تربيته في حضنها، ودون أن تنتبه – مثلاً – إلى حقيقة أن هذا الوحش، بجيناته الداعشية، كان لابد سيحرق الشهيد الكساسبة حتماً، “انتقاماً” وليس “ثأراً”، حتى ولو كلفه ذلك الضرب عرض الحائط بمناشدة والده – ابن العشائر – معاملته كـ “ضيف” وأن يلقى المعاملة الحسنة.
لم يفعل الأمريكيون والسعوديون والقطريون طوال السنوات الماضية إلا المزيد من إغراق النظام الهاشمي في أزمة متمادية ومستفحلة ليست الأوضاع المعيشية إلا ذروة جبل الجليد فيها، أما قاعدتها العميقة واللامرئية واللامنظورة فهي متوالية الارتدادات والارتجاعات والارتكاسات المخيفة للانخراط الأعمى والأبله في الأزمة السورية، والاستمرار في إيقادها وإزكاء نارها والتحريض عليها، ودون أدنى مراعاة للمصالح الوطنية الأردنية، وانطلاقاً من مصادرة سياسية جاهلة، لا تعدو كونها “بروباغاندا” ساذجة تعكس، في حقيقتها، عوزاً وطنياً وقومياً خطيراً عندما تشدقت بأن “النظام ساقط لا محالة”. وهكذا كان، ركبت المملكة موجة الربيع الأمريكي الوهابي الأردوغاني لتسقط أخيراً في أعاصيره الكاسحة. “الدواعش” و”النصرة” اليوم في رحلة العودة إلى البيت والعمل المدني السري مجدداً، ومراهقو “الربيع العربي” ينزلون إلى الشوارع شباناً “ملهمين” بالإسلاموية والعشائرية واليسارية الطفولية التي قادت تظاهرات 2011.
ليس علينا أن نتفاءل كثيراً رغم أن المطالبة بالرغيف والكرامة تستحق ألف قبعة، فالأردن يغرق، يغرق، بكل معنى الكلمة، والموارد لن تأتي طالما أن “صفقة القرن” تضع المملكة في مواجهة تحديات كيانية غير مسبوقة، والسعوديون لن يدفعوا ببساطة، وترامب تعوّد على الأخذ، و”إسرائيل” تحتاج إلى تغيير قواعد اللعبة، وخيار المقاومة عائد إلى الشرق الأوسط أشد قوة وخبرة، وعلى العرش أن يعيد النظر بخياراته الداخلية والخارجية؛ والأهم أن يستعد لمعركة قاسية مع الجماعات الأصولية المسلحة التي يبدو أنها تجاوزت فترة الحضانة الثانية بعد أن تلقت ضربة قاتلة في سورية.. إنها الموجات الارتدادية للزلزال السوري وتلك مجرد مقدمات!
بسام هاشم