فوضانا
سلوى عباس
تمضي الأيام.. والحياة تتمادى بنا في تشعباتها الكثيرة ومساربها العميقة.. تتقاذفنا في كل الاتجاهات وتجعلنا نتلاشى في زحمة المطالب نلهث للامساك باللحظة الشاردة وإروائها بالمزيد من اللهاث.. شعور ممض ومؤلم ينتابني– وربما كثيرون مثلي- مع كل حلقة من مسلسل فوضى الذي تمثل أحداثه انعكاساً لحالاتنا الإنسانية بكل تفاصيلها، وتعبيراً عن ضجيج أرواحنا، لأنه في هذا الزمن المجلل بالقهر والتوتر لا يستطيع الإنسان إلا أن يستسلم لتداعياته هرباً من واقعه المؤلم، فيأتي هذا العمل بكل عفويته وتلقائيته ليثبت أن الفن الجيد لا يصدر إلا عن خيال إبداعي مبتكر يستشرف أبعاد اللحظة الإنسانية ويوظفها توظيفاً يقدمها بكل وضوح وبعيداً عن كل التباس.
هذه الصور الحياتية تعبّر عن حال شخصيات العمل الدرامي “فوضى” للكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير اللذين عودانا على نظرتهما الحساسة لقضايا المجتمع وإشكالاته الحياتية، والتي جسدها بمشهدية بصرية أعطت العمل الكثير من الواقعية والمصداقية المخرج سمير حسين فواكب برؤيته الإخراجية تفاصيل الورق التي تناول فيها الكاتبان قضايا الناس وهمومهم، ولنا في “حائرات” و”بانتظار الياسمين” خير شاهد على بصمته الإبداعية والحساسة في الدراما السورية، فأحداث العمل تدور في أحياء شعبية تضم أشخاصاً شردتهم الحرب وجمعتهم مآسيهم وأحزانهم، فراح كل منهم يبحث عن خلاصه بعمل ينقذه من فقره وضياعه ويضمن له فسحة من العيش الكريم.. هؤلاء الأشخاص الذين تجمعهم هزائمهم وخيباتهم ومصيرهم المشترك رغم تنوع أطيافهم وتباين تركيبتهم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية حيث كل واحد منهم يحمل نظرة مختلفة للحياة، أشخاص يعيشون على هامش الحياة مهزومون ومنكسرون، يتساءلون عن معنى الحياة وجدواها وماذا نريد منها، وكيف يمكننا أن نعيش تفاصيلها ونفهمها..
هذا السؤال المر يجر وراءه الكثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات تفسرها وتوضحها، ليبقى هؤلاء الناس، ونبقى نحن معهم، على قيد أمل أن تهب رياح على نبتة الروح المتوهجة في محاولة عاصفة لاستلاب تلك الحياة، وتتفجر الشكوى أنيناً مكبوتاً بأن هناك شيئاً عزيزاً يتسرب من بين شراييننا نحاول الإمساك به، قد نستطيع وقد لا نستطيع.. إنها المحبة التي يحولها إيقاع الحياة السريع إلى كائن يكاد ينزوي جوعاً، إنها المشاعر التي تجعل للعيش مذاقاً لاذعاً وحميماً، والتي بدونها لن نستطيع الحياة، فالمشاعر المتبادلة خارج إطار المصالح والحاجات والمواقف الصغيرة في حياتنا كالكلمة الرقيقة واللمسة الحانية التي تعتبر شريان حقيقي للحياة أخذت تتوارى بفعل الحرب والدمار وطغيان العلاقات المادية والتقادم، وكأن الزمن هو المقياس الحياتي الأصدق للعلاقة الإنسانية، فأيامنا بحاجة إلى زيادة مساحة الحب تجاه الآخرين وترجمتها إلى سلوكيات فاعلة واهتمام وجداني صادق، وفي قفرة العمر هذه مازلنا بحاجة إلى اتكاءات روحية ومشاعر متجذرة لا إلى أكوام ومستوردات مزيفة.. بحاجة إلى إشراقة شمس حقيقية تنير عتمة أيامنا، ولنبقى كما تلك الورقة التي صمدت في مكانها الذي عُلقت فيه لسنوات سبع تقاوم الحرب والدمار تحصنها عبارات الحب التي تضمنتها فتمسكت بالحياة في انتظار كاتبها الذي أرهقت روحه رؤيتها وقد اعتلاها غبار الخراب الذي لم يستطع أن يمحو كلماتها ولا يلغي معانيها التي تقول له: “لا رغبة لي سوى أن أحبك.. ولا أرى في عينيك إلا ما أحبه منك.. أفتش عنك في يديّ المفتوحتين عبر نفسي.. ولا أعرف لشدة ما أحبك.. أينا الغائب”؟.