دراساتصحيفة البعث

ماذا يحدث عندما يُدير معتوهٌ إمبراطوريةً؟

ترجمة: علاء العطار

عن “ذا نيويوركر” 6/6/2018

أحد الأشياء القليلة التي كان يبرع فيها القيصر فيلهلم الثاني، الذي حكم ألمانيا من عام 1888 إلى عام 1918، كانت إثارة الغضب، وكان مختصاً بإهانة الملوك الآخرين، فدعا ملك إيطاليا فيكتور إيمانويل الثالث بـ”القزم” على مرأى ومسمع حاشية الملك نفسه، ودعا الأمير البلغاري فرديناند -الذي أصبح قيصراً في وقت لاحق-  بـ”فرناندو نازو”، بسبب أنفه الذي يشبه المنقار، ونشر شائعات بأنه “مخنث”، وبما أن فيلهلم كان طائشاً، كان الناس يعرفون دائماً ما كان يقوله عنهم في غيابهم، وثأر فرديناند منه، فبعد زيارة له إلى ألمانيا، في عام 1909، صفعه القيصر على مؤخرته أمام الملأ ثم رفض الاعتذار له، فقام فيرديناند بمنح عقد تسليح قيّم كان قد وعد الألمان به لشركة فرنسية بدلاً من ذلك.

غير أن ذلك لم يردع القيصر، فمن بين الأشياء العديدة التي كان فيلهلم مقتنعاً بأنه كان بارعاً فيها، بالرغم من كل الأدلة التي تشير إلى النقيض، كانت “الدبلوماسية الشخصية”، أي إصلاح مشكلات السياسة الخارجية من خلال لقاءات فردية مع ملوك ورجال دولة أوروبيين آخرين، في الحقيقة، لم يستطع فيلهلم القيام بالأمور الشخصية أو الدبلوماسية، ونادراً ما كانت تسير هذه الاجتماعات على ما يرام، فقد كان القيصر ينظر إلى الآخرين من منظور المنفعة، وكان مدمناً على الكذب، ويبدو أن كان لديه فهم محدود للعلاقة بين السبب والنتيجة. وفي عام 1890، أضاع اتفاقاً دفاعياً طويل الأمد مع روسيا -وهي بلد شاسع يُجاور الإمبراطورية الألمانية من الشرق ويشكل تهديداً لها- فقد ارتأى، على نحو خاطئ، أن روسيا كانت بحاجة ماسة لإظهار حسن النيّة لألمانيا لدرجة تُمكنه من إبقائها محتارة، لكن ما حدث أن روسيا أقامت على الفور تحالفاً مع فرنسا، جارة ألمانيا من الغرب وعدوتها، وقرّر فيلهلم أنه سيتلاعب بالقيصر نيكولا الثاني – الذي وصفه فيلهلم بـ”المغفل” و”المتذمر” الذي لا يصلح إلا “لزراعة اللفت”-  لكي يتخلّى عن هذا التحالف، وفي عام 1897، قال نيكولا لفيلهلم أن يغرب عن وجهه، وتلاشى الأمل بقيام تحالف بين ألمانيا وروسيا.

منذ عقد مضى، نشرت كتاباً بعنوان “جورج، ونيكولا، وفيلهلم: أبناء عمومة وملوك على الطريق إلى الحرب العالمية الأولى”، وهو كتاب يتحدث في جزء منه عن القيصر فيلهلم، الذي اشتهر بكونه أول حفيد للملكة فيكتوريا، وبقيادته ألمانيا نحو الحرب العالمية الأولى، ومنذ أن بدأ دونالد ترامب حملته الانتخابية الرئاسية، عادت صورة ذلك القيصر لتحتل تفكيري- أخطاؤه الشخصية، وما أدّت إليه من تداعيات عالمية.

وتغريدات ترامب هي أول ما ذكّرني بالقيصر، فكان فيلهلم مدمناً على إلقاء الخطابات، وكان يحيد عن النص دوماً، وحتى موظفوه لم يتمكنوا من منعه، رغم أنهم حاولوا توزيع نسخ من الخطابات للصحافة الألمانية قبل أن يسلمهم إيّاها، لكن لسوء الحظ، طبعت الصحافة النمساوية تلك الخطابات فور تسليمها، وسرعان ما انتشرت الهفوات والإهانات في جميع أنحاء أوروبا، وكان فيلهلم يُحب أن يقول دائماً: “هناك سيد واحد فقط في هذه الإمبراطورية، ولن أتساهل مع أي شخص آخر”، رغم أن ألمانيا كان تمتلك هيئة ديمقراطية وأحزاباً سياسية- مثلما قال ترامب: “أنا الشخص الوحيد المهم”- ادخر القيصر بعض الشتائم للأحزاب السياسية التي صوّتت ضد سياساته، وقال: “إنني أعتبر كل ديمقراطي اشتراكي عدواً للوطن”، وندّد بالحزب الاشتراكي الألماني معتبراً إيّاه “عصابة من الخونة”، وقال زعيم الحزب الاشتراكي أوغست بيبل، إنه في كل مرة يفتح فيها القيصر ثغره، يكسب الحزب مائة ألف صوت.

وحين أصبح فيلهلم إمبراطوراً، في عام 1888، في التاسعة والعشرين من عمره، كان عازماً على أن يُنظر إليه على أنه قويّ وصلب العود، وكان مهووساً بالجيش، فأحاط نفسه بالجنرالات “رغم أنه، مثل ترامب، لم يحب الإصغاء لأي منهم”، وكان لديه مائة وعشرون زياً عسكرياً، ولم يرتد غيرها إلا القليل، وكان يَزرع على وجهه تعبيراً قاسياً في المناسبات العامة والصور الفوتوغرافية- وهناك العديد منها، حيث إن فيلهلم كان يُحب إرسال صور موقعة وتماثيل نصفية لأي شخص يودّ اقتناء أحدها، وكان يثبت شاربيه بالشمع، ويثنيهما للأعلى لدرجة أن كان لهما عبارة خاصة، وهي “تم إنجازه”.

وواقع الأمر أن فيلهلم لم يُنجز الكثير، فقد اتفقت القيادة العامة للجيش الألماني على أن القيصر غير قادر “حتى على قيادة ثلاثة جنود”، فكان يفتقر للقدرة والتركيز، وكتب معلمه السابق الذي خاب أمله فيه “إن الملهيات، سواء أكانت ألعاباً قصيرة مع جيشه أو أسطوله، أم السفر أو الصيد، تعني له الكثير.. فنادراً ما يقرأ باستثناء بعض قصاصات الصحف، وبالكاد يكتب أي شيء بنفسه باستثناء بعض الملاحظات الهامشية على التقارير، ويفضّل المحادثات القصيرة كثيراً”، وجمعت حاشية القيصر له قصاصات صحفية، يتحدث معظمها عنه، حيث قرأها باهتمام شديد، مثل ترامب عندما يشاهد التلفاز، وأي قصة تنتقده ستُفجر داخله نوبة حِنق.

وخلال فترة حكم فيلهلم، بدأت المراتب العليا في الحكومة الألمانية تكشف النقاب عن الخلافات، حيث كان المسؤولون يتشاحنون فيما بينهم، وأعرب دبلوماسي ألماني عن استيائه بقوله “أصبحت الآن أكثر الآراء تناقضاً عاجلة على أعلى المستويات”، وما زاد حالة الارتباك، أن فيلهلم كان يُغيّر موقفه كل خمس دقائق، وكان سهل الإقناع ويصغي لآخر شخص تحدث معه أو لآخر قصاصة قرأها- على الأقل حتى يتحدث إلى الشخص التالي، وكتب وزير الخارجية في عام 1894: “إنه أمر لا يُطاق.. اليوم شيء، وغداً آخر، وبعد بضعة أيام شيء مختلف تماماً”، ولجأ موظفو فيلهلم ووزراؤه إلى التلاعب والإلهاء والتملق لترويضه، ونصح فيليب تسو أولينبيرغ، وهو صديق القيصر المقرب، زملاءه “لحمله على قبول فكرة يجب أن تتصرف كما لو كانت الفكرة فكرته”، وأضاف: “لا تنسوا الكلام المعسول”. في كتابه “نار وغضب”، كتب مايكل وولف أنه لحمل ترامب على اتخاذ إجراء معين، على موظفي البيت الأبيض أن يقنعوه بأنه “فكر بالأمر بنفسه”.

وما فاقم حالة التشاؤم، أن رعاية فيلهلم لليمين الوطني العدواني تركته محاطاً بوزراء كانوا مقتنعين بأن الحرب الأوروبية آتية لا محالة، بل ومطلوبة، واستغل ألفريد فون تيربيتز، قائد البحرية الألمانية -الذي أدرك في أول اجتماع له مع القيصر أنه “لم يعش في عالم الواقع”- حسد فيلهلم وغضبه من أجل انتزاع المبالغ الهائلة اللازمة لبناء أسطول بحري ألماني ينافس الأسطول البريطاني، وهو مشروع خلق سباق تسلح، وأصبح عقبة مستعصية أمام مفاوضات السلام.

وكان القيصر سريع التأثر ولكن لا يمكن السيطرة عليه، وأكد على سلطته بشكل غير متوقع، وكأنه يثبت أنه لا يزال ممسكاً بزمام الأمور، حيث تدخل بخسّةٍ في سياسات مستشاريه وأقال الوزراء دون سابق إنذار، وقال مساعده الخنوع بيرنهارد فون بولو لصاحبه شاكياً: “لا تملك أدنى فكرة عما منعت حدوثه، ومقدار الوقت الذي عليّ أن أكرسه لاستعادة النظام في المجالات التي أشاع فيها سيدنا المُعظّم الفوضى”.

وكان أفظع أسرار القيصر أنه كل بضع سنوات -بعد أن كشف عبثه وأخطاؤه عدم كفاءته وأديا إلى أزمة- كان يعاني من انهيار كامل، وكانت حاشيته تحمله بعد أن ينهار على الأرض، لينعزل في أحد قصوره، حيث ينتحب ويشكو من أنه ضحية، وبعد العويل يغطّ في صمت غير معهود، ويستسلم من حين لآخر للدموع، وبالتدريج، كان يُعيد تقويم إحساسه بالواقع -أو اللاواقع- وبعد بضعة أسابيع يعود إلى حاله، بنفس الصخب والجموح المعهودين.

قضيت ست سنوات أؤلف كتابي عن فيلهلم وأبناء عمومته، ملك انجلترا جورج الخامس، والقيصر نيكولا الثاني، لكن غرور فيلهلم وغرابة أطواره جعلاه الأكثر إمتاعاً من بين الثلاثة الذين كتبت عنهم، ولكن بعد فترة من العيش مع فيلهلم أصبح الأمر شاقاً، كما يحدث لك عندما تكتب عن شخص آخر على مدى فترة طويلة، وكان قضاء الكثير من الوقت حول شخص لم يتعلم أبداً، ولم يتغيّر أبداً، أمراً مضنياً ومثبطاً للعزيمة.

لم يكن القيصر وحده مسؤولاً عن الحرب العالمية الأولى، لكن أفعاله وخياراته ساعدت على اندلاعها، وإن كان الصراع الدولي قاب قوسين أو أدنى، فإنك لا تريد من شخص نرجسي أن يسيطر على قوة عالمية، وحساسية فيلهلم المفرطة، وتقلب مزاجه، وحاجته إلى أن يتمّ الاعتراف به، هذه الأمور مسّت العناصر في ألمانيا في الصميم، والتي برزت كشكل من أشكال تشنج المراهقين- سرعة التأثر بالإهانات، والتحمس لفكرة استعراض العضلات، والانغماس بشعور الأحقية، وفي الوقت عينه، أثارت مواقف فيلهلم التوترات في أوروبا، وخلقت دبلوماسيته الشخصية الخرقاء الشكوك، كما أن تحالفه مع اليمين وإعجابه الصاغر بالجيش جعلا البلاد تقترب شيئاً فشيئاً من الحرب، وبمجرد أن اندلعت الحرب، قامت الحكومة والجيش بتنحية القيصر جانباً وبشكل فعّال، ولم يظهر أخطر الأضرار إلا بعد أن تنازل فيلهلم عن العرش، في تشرين الثاني من عام 1918، “أمضى بقية حياته في هولندا، حتى وافته المنية عام 1941″، وغرقت ألمانيا المهزومة في كساد دام لسنوات، وازداد الاستياء، وانتشرت الكذبة السامة في أن ألمانيا “سُلبت” من نصرها الشرعي في الحرب، وما حدث بعد ذلك تاريخٌ معروف.

أنا لا ألمح إلى أن ترامب على وشك بدء حرب عالمية ثالثة، لكن التطورات الخارجية الأخيرة -التقلبات الشديدة مع كوريا الديمقراطية، والتخلي عن الاتفاق النووي الإيراني، والتهديد بحرب تجارية مع الصين- تُشير إلى اضطرابات قد تتنامى بسرعة وتخرج عن السيطرة الأمريكية، ويعتقد بعض منتقدي ترامب أن هذه الأزمات المتصاعدة قد تجعله يُرخي قبضته على الرئاسة، أو حتى أن يفقدها، إلا أن الدرس الحقيقي الذي نستخلصه من القيصر فيلهلم الثاني قد يكون أن تنحي ترامب عن منصبه قد لا يضع حدّاً للمشكلات التي قد يجلبها أو يزيدها تفاقماً، بل إنه قد يكون البداية وحسب.