“سنلتقي بعد عام وحرب”.. من أدب المهجر السوري الجديد
“ولأنهم كانوا طعنة فوق الندوب/صعب علي تحديد موقع إصابتي/ وما كانت دروعي واقية كفاية/ فبدأت أكتب”، أسباب عدة وردت في الجمل القليلة السابقة، دفعت الشاعرة السورية المقيمة في بلاد المهجر “هبة مرعي” للخوض في شأن شائك حاله كحال الشعر، بعد أن أدركت أن شعر المنفى، له لون الوجع الذي لا تريده أن يرافقها، فهو من سيمسك يدها ليأخذها من قاع الشعور بالعجز، إلى سفوح الحلم وسماوات مفتوحة على قصائد تطير في الهواء كنسائم، وما على الشاعر إلا أن يمسك بمخلاته، ويتصيد تلك الجمل المبعثرة هنا وهناك، ليعمل بجهد بالغ، على وضعها في سياق موضوعي وذو دلالة ومعنى واضحان، وهنا جاءت البساطة والتلقائية المشغول عليها بعناية بالغة لتبدو كذلك أي بسيطة في أشغال الشاعرة اللغوية، والتي تقدم فيها “مرعي” لمجموعتها الشعرية “سنلتقي بعد عام وحرب” هي من تعطي نصوص الكتاب النثرية، ألفة مستمرة سيشعر بها القارئ، وهو يقلب الصفحات، أو وهو يقف بين الجملة والأخرى، محاولا المقارنة، أيهما الأكمل؟، وكمثال عن تلك البساطة اللماحة والذكية والمتقنة نورد هذا المقطع من قصيدة (تكتبني ولا اكتبها)، تقول: يمكنك أن تصبح شاعرا دون أن تكتب قصيدة/تبتسم لشخص حزين مثلا”. الجمل بسيطة، والفكرة واضحة، لكن اللقطة الذكية، وربط الإحساس الداخلي والانفعال الخارجي بفعل يخفف الحزن مثلا كالابتسامة بوجه حزين، هي قصيدة بل والأجمل أيضا.
هبة مرعي من الشاعرات السوريات، اللواتي بدأن بقصد أو دونه في إحياء أدب المهجر، ذلك الأدب الذي كان له في ماضي الأيام، صولات وجولات مع أهم شعرائه الكبار، هاهو اليوم، ينتعش وينتفض قلبه السنونو، في المهجر مجددا، إلا أن القسوة المفرطة التي تجلد بها الشاعرة نفسها من خلال قصيدتها، تجعلها وكأنها تريد أن تتطهر من العالم الأرضي، بأكبر قدر من الألم، وقدرة على احتمال هذا الألم، الذي يطعن كسكين في الخاصرة، بعد أن فَتح الشعر بصوره وجمله الشعرية وعلائقه الخاصة جدا، جرحا لم يندمل يوما، لكنه لم يكن ينبض بهذه القوة من قبل، الشعر هنا هو مفتاح التشظي الذي يصيب روح الشاعرة، وكأنه قدرها حتى في قصيدة تكتبها، بعد أن واجهتها الحياة بقسوة وخيبات أمل متكررة، لم يكن الموت لأكثر من مرة، إلا بعضا من ذكريات، ربما عبرت شاطئ الطمأنينة في وجدانها، وربما لم يزل يقبع في تلك الدواخل الهشة والحساسة بل المفرطة الحساسية، تقول هبة: “ذاكرتي تتراجع رويدا رويدا/ ما عدت أعرف نفسي/بدأت بشكل عشوائي نسيان كل الأفكار والذكريات، الأماكن، الشوارع، كل الوجوه.. حتى الأسماء/ وأنا كالشجرة تؤلمني أغصاني”.
إلا أن الشاعرة تعرف السطوة التي يمنحها إياها الشعر، إنها “عشتروت” الحكاية، ربة الينبوع، صعود السهم إلى الدلالة، مباغتة الخفة، سؤال لا جواب له، التوليفة الخطيرة التي يعنيها شعر يسكن جوانيات امرأة، تقول الشاعرة التي اختبرت هذا الجبروت أيضا: “مع امرأة تكتب/استعد لميتة جميلة صاخبة/ لا تطلب الرحمة/فأصغر أخطائك سيكون مدويا كإعصار/ مع امرأة لا تكتب أعذارا أو اعتذارا/ تضرم النار في التابوت كل مرة/وتنبعث أكثر صلابة بعد كل احتراق”، إنه أيضا سبب من أسباب امتطائها لصهوة القلم، إنها امرأة تكتب، وهذا يعني أنها قادرة على اللعب مجازيا بالعالم، وتغيير مزاجه وفق مزاجها وتقلباته، بل وحتى تبديل حيثياته وقيمه، تلك التي لم تكن إلا كلاما مفرغا من أي معنى، لكنه الشعر، وهو من سيحدد بماذا سيمتلئ هذا الفراغ في الكلام الخاوي، تقول هبة: “أما عني/ فأنا أنتمي للحواف/ حيثما تكون هاوية أكون/ صديقة حميمة للسقوط من عل/ ومعجونة باشتهاء مرضي للتحطم/ على كتفي نبتت شجرة/ لفرط ما بكى عليها أصدقاء/ وأزهرت بقلبي/ لفرط ما ابتلعت من دموع”.
تتنوع المواضيع التي تتناولها الشاعرة في مجموعتها الشعرية “سنلتقي بعد عام وحرب” العنوان المطعّم بالرمزية كثوب زينة، لا كأسلوب، فهي امرأة وستخوض بشؤون القلب، إلا أن هذا الخوض لن يكون متشابها مع غيره، كما أنه سيجيء مفاجئا ومفارقا في مراميه، للحالة العامة التي تقدمها تلك المشاعر العنيفة، من قصيدة بعنوان “أنت جميعهم” يرد المقطع التالي: “ستبقى وجعا جميلا يسكنني بين روحي وبيني/ وتأتي بك الذكرى مع شمس كل صباح/تخيل إذا كم مرة ألقاك/قلبي ممتلئ بك وغيابك أجمل الحاضرين/ ولازلت أبحث عن وجهك كل يوم بين آلاف الوجوه /َ والقشعريرة التي تركتها تسكن كل خلية فيّ تثور/ تتوق/وتشتاق/ آه كم يجيدون الغروب/من غمروا حياتنا بفوضى الإشراق”، با لها من مفارقات لغوية في المعنى والشكل والسبك أيضا، حتى وإن بدت الجمل الشعرية والصور وكأنها مألوفة، لكن هذا هو حال الديوان بأكمله، إن الصفة الأهم من صفاته، هي تلك الألفة التي تغفو بين حروفه وظلال تلك الحروف السائلة كظلال غامقة على الورق، لتأخذ أشكالا تعطي القصيدة بعدا تشكيليا تخيليا، يحيل الكلام العادي كرسالة عاشقة لحبيبها، إلى كلام من العيار الجميل.
هبة هرعي صوت سوري، يعلن بقصد أو بدونه، عن عودة جديدة لأدب المهجر، حيث الغربة ومفازاتها الأشد وطأة، هي الثيمة التي لا تفارق قصيدة أو روح عالقة هناك، في البعيد، البعيد جدا.
“للغربة نصل سيف شفاف/ ينغرس صداعا في صدغك/ يسلب الشوق ملامحك/ و يختارك الغياب من وسط الزحام/ يكسر الحنين عظام صدرك/ وجعا تضغط بكلتا يديك موضع الألم/ ظنا أنه سيزول فتأتي العزلة تربت على كتفك و تأخذك بأحضانها”.
تمّام علي بركات