يوم القدس العالمي المسجد الأقصى ووعد النصر
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
هناك حقيقة تستوجب منا التفكير والتأمل، وهي أن تسمية “المسجد الأقصى” مثلها مثل “ليلة القدر”، أو “سدرة المنتهى”، هي تسمية أنزلت من السماء، فلا أحد يستطيع القول بأن هذه التسمية أطلقت على مسجد بيت المقدس قبل الإسراء، أو قبل نزول سورة الإسراء، وقوله سبحانه وتعالى “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” الإسراء 1.
إن وجود هذا المسجد في القدس منذ زمن طويل شيء، وإعطاءه تسمية “المسجد الأقصى” شيء آخر، فلا أحد يستطيع حتى الآن أن يأتينا بوثيقة تاريخية أو دينية يمكن أن يستخلص منها أن هذا المسجد عرف باسم المسجد الأقصى قبل نزول هذه الآية من سورة الإسراء، والواقع أن هذه الآية بالذات، وتسميتها لمسجد بيت المقدس على أنه “المسجد الأقصى”، مهّدت لفهم الآيات اللاحقة في سورة الإسراء، وما ورد فيها عن الإفسادين، وعن الوعد بالانتصار على بني إسرائيل في المرتين، وذلك في قوله عز وجل “فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً” الإسراء 7، فبفضل تسمية المسجد الأقصى في الآية 1 أمكن الاستنتاج بأن مسرح الإفسادين في فلسطين، وأن هزيمة بني إسرائيل في الحالتين ستتوّج في المسجد الأقصى.
المسجد الأقصى..
معلماً من معالم الإسلام الإبراهيمي
وفق التقليد الإسلامي، فإن المسجد الأقصى في القدس تعود نشأته إلى الحقبة الإبراهيمية، أي أنه أساساً يشكّل معلماً من معالم الإسلام الإبراهيمي، يرد في صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: “قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولاً؟.. قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟.. قال: ثم المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟.. قال: أربعون”، وهنا جاء الاستنتاج بأن المسجد الأقصى بني بعد بناء الكعبة في مكة بأربعين عاماً.
إن الجبل الذي بني عليه المسجد آنذاك حمل ومازال يحمل اسم “الموريا”، وهي كلمة كنعانية تعني “المختار”، وهذا المكان، وموضع الصخرة المشرفة على ذروته، هو الذي شهد وفق الرواية التوراتية واقعة الفداء الإبراهيمي، لكن التوراة تزعم أن سيدنا إبراهيم أطلق على ذلك المكان بعد واقعة الفداء اسم “الرب يرى” يهوه يرأه، لكن هذا الادّعاء تنقضه رواية التوراة في موضع آخر، إذ يرد فيها القول: “ثم كلم الرب موسى وقال له أنا الرب.. وأنا ظهرتُ لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم” خروج 6: 2-3، فكيف يسمّي سيدنا إبراهيم المكان باسم “يهوه يرأه”، بينما هو لم يكن يعرف الرب باسم يهوه، وكذلك كان الحال بالنسبة إلى إسحق ويعقوب؟.. إن الافتراض في هذه الحالة بأن المكان حمل اسم “أريئيل” قد يكون قابلاً للتصديق.
ويرد اسم “أريئيل” كأحد أسماء القدس، وإن اختلفت الاجتهادات حول دلالته وتعددت، والأغرب أن يقال عن أريئيل هذه “يقوم ضجيج في شعوبك وتخرب جميع حصونك كإخراب شلمان بيت أريئيل في يوم الحرب.. الأم مع الأولاد حطمت.. هكذا تصنع بكم بيت إيل من أجل رداءة شركم.. في الصبح يهلك ملك إسرائيل هلاكاً” هوشع 10: 14-15. وبغض النظر عن هذه القصة وما فيها من اضطراب وغموض، وإشارة إلى بيت ديني جرى تخريبه، فإن ما يمكن قوله هو أن الرواية اليهودية تجاهلت بشكل كلي بناء معبد على جبل الموريا بعد واقعة الفداء الإبراهيمي، وذهبت إلى الزعم بأنه في زمن داود عليه السلام كان موقع الصخرة المشرفة بيدراً لأرونة اليبوسي!!.. وأن داود اشترى ذلك المكان الذي ادّعت أن هيكل سليمان بني عليه بعد ذلك، واجتهدت هذه الرواية في طمس اسم المكان، فصارت تطلق عليه اسم صهيون تارة، واسم الهيكل أو جبل الهيكل تارة أخرى، محاولة بذلك إخفاء تاريخ الموقع، وما طرأ عليه من تطورات وأحداث خلال الزمن الطويل مثلما حدث للكعبة في مكة.
في كتابه “المقدس والمدنس” يتناول العلامة مرسيا إلياد بعض المفاهيم الميثولوجية التي تبنتها الديانات أو الثقافات القديمة، ومنها فكرة “مركز العالم”، وارتباطها بمفهوم “الجبل الكوني”، أو الجبل الذي يصل بين الأرض والسماء، وفكرة “سرّة الأرض”، وقد قدم في هذا السياق أمثلة عديدة لأماكن متباعدة اعتمدت فيها مثل هذه التصورات، ومن بين هذه الأماكن كانت فلسطين والقدس.
يقول إلياد: إن بلاداً برمّتها فلسطين، وإن مدينة هي القدس، وإن معبداً معبد القدس تمثّل لا على التعيين صورة كونية، وقد كتب فلافيوس يوسف في معرض رمزية المعبد بأن الفناء يمثّل البحر أي العالم السفلي، والمعبد يمثّل الأرض، وقدس الأقداس يمثل السماء، ويلاحظ إذاً أن صورة الكون هي كالمركز أيضاً تتكرر داخل عالم مسكون، ففلسطين والقدس ومعبد القدس، تمثّل كل منها في آن واحد صورة الكون ومركز العالم، ويقول إلياد إنه تبعاً للريغ فيدا ولد العالم وتطوّر بدءاً من نواة ومن نقطة مركزية، ويقول: إن التقليد اليهودي أكثر وضوحاً، حيث “قدس الأقداس” خلق العالم كجنين، وهو كالجنين تماماً ينمو بدءاً من السرة، وكذلك الإله بدأ بخلق العالم بالسرة، ومن هناك انتشرت في كل الاتجاهات، وهو يورد أن من المصادر اليهودية ما تُسمّى الصخرة المشرفة على أنها أساس الأرض، أي سرّة الأرض، وأنه من هنا انبسطت الأرض برمّتها.
فلسطين سرّة الأرض
هل نستنتج من هذا أن التصورات المتعلقة بكون القدس أو فلسطين هي سرّة الأرض ارتبطت بالتقليد اليهودي حصراً؟.
للإجابة عن هذا السؤال نقول: إن المصادر اليهودية التي تبنت هذا التصور لم تكن الأقدم تاريخياً.
في مسرحية “توسّل امرأة” للكاتب اليوناني أسخيلوس، والعائدة إلى القرن السادس ق.م، وهو ما يعني أسبقيتها التاريخية المؤكدة على المصادر اليهودية التي طرحت مثل هذه التصورات، إذ إن أقدم هذه المصادر، كما يؤكد العلامة توماس طومسون، كتبت في القرن الخامس ق.م، يقدم أسخيلوس شخصية فلشطون Palachthon فلسطون / فلسطين على أنها سرّة الأرض، والتي بدأ منها تشكيل الأرض، وفوق هذا فإنه يقدم فلشطون على أنه الإنسان الأول الذي لم يخلق من أب وأم، وإنما خلق من طينة أرض فلشطون. وواضح أن شخصية فلشطون في هذه الحالة هي شخصية أبينا آدم، وعندئذ، لابدّ أن نقف متأملين أمام قوله عز وجل “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون” آل عمران 59، فرواية أسخيلوس اليوناني من شأنها أن تضعنا أمام استنتاج محتمل يتمثّل في كون آدم وعيسى عليهما السلام خلقا من تراب فلسطين.
سيقال لنا: إن ما ذهب إليه أسخيلوس حول فلشطون فلسطين هو أسطورة، ونقول: حتى – وإن كانت أسطورة – فإن اختيار اليونان لاسم فلسطين ليكون اسماً لسرة الأرض وللإنسان الأول الذي خلق من طينة تلك الأرض لابدّ أن يكون له مغزاه ودافعه، وربما أيضاً مصدره الأكثر قدماً، والذي لم يصلنا حوله شيء، أو وصلنا التصور حوله بعد أن تعرّض للتزييف، والواقع أن الدراسة المتعمقة لمصدر اسم فلسطين يمكن أن تقودنا إلى كلمتين ترتبطان بمفهوم الخصب والنمو في الطبيعة، وهما الفلوس باللام المشددة لعضو الذكورة، والأمفالوس للرحم، وبالتالي، فإن الاسم ربما اشتق من دلالة الخصب والنمو والتزايد والحمل.
هل نكتفي بهذا الجواب، أم نذهب إلى مصدر آخر علمي هو من نتاج التطور العلمي في قرننا العشرين لنحاول التثبت ما إذا كانت فلسطين هي سرّة الأرض، أم أن ما قيل حولها قديماً كان مجرد أسطورة؟.
في كتاب علمي من تأليف كولين ماكيفيدي بعنوان “أطلس التاريخ الأفريقي”، يقدم لنا المؤلف خريطة لما كانت عليه الأرض قبل 175 مليون سنة، وفق ما توصل إليه علماء “الجغرافيا التاريخية”، وفي ذلك الحين كانت القارات كلها مندمجة مع بعضها في كتلة واحدة، وتكوّن قارة عظمى واحدة، اسمها بانجايا Pangaya، وتقع أفريقيا في منتصفها، ومنذ نحو 160 مليون سنة بدأت بانجايا تتكسر وتنفصل أجزاؤها.
حين ننظر إلى خريطة بانجايا أو الأرض الأم هذه، وما طرأ عليها من تغيرات جذرية عبر الزمن الطويل، ونتخيل أنها تمثّل جسد امرأة تتجه نحو الشرق، لابد أن نلاحظ أمرين:
الأول: أن الوطن العربي بصورته الحالية احتل موقعه فيما يمكن أن نعتبره البطن، وشكّلت فيه فلسطين أو بلاد الشام موقع السرّة.
والثاني: أن هذا البطن وهذه السرّة ظلا تقريباً ثابتين في موقعهما من الكرة الأرضية، بينما جرت الانزياحات الكبرى للمناطق الأخرى باستثناء أفريقيا، والتعديل الوحيد تمثّل في الانهدام الأفريقي الذي أدى إلى تشكّل البحر الأحمر، ولكن مع ثبات الوطن العربي في موقعه.
إن اسم بانجايا الذي اعتمده علماء الجغرافيا التاريخية المعاصرون للأرض الأم كان مصدره بالتأكيد الميثولوجيا اليونانية، ونحن نلتقي مع هذا الاسم في كتاب “التحولات” لأوفيد الروماني حين يتحدث عن رحلة ميرا وتشردها عبر العربية السعيدة وبانجايا وصولاً إلى سبأ، حيث تحولت إلى شجرة المرّ!.. وهذا يعطينا دليلاً إضافياً على التصور اليوناني الغامض حول أرض بانجايا على أنها كانت تقع إلى الشرق من بلاد اليونان، وأن العرب والسبأيين كانوا ينسبون إلى هذه الأرض، فإذا أضفنا إلى هذا المفهوم التصور اليوناني حول سرة الأرض فلشطون فلسطين، بدا واضحاً أن التقليد اليهودي ورث تصوره حول سرة الأرض عن التقليد اليوناني، لكن هذا الاستنتاج لا ينفي، بل لعله يؤكد، وجود أساس واقعي ما للرؤية الميثولوجية، وقد رأينا كيف تجسدت هذه الحقيقة بالفعل على خريطة الأرض الافتراضية بانجايا كما توصل إليها العلماء.
هل يمكن لهذه الحقيقة أن تكون كامنة في تسمية “المسجد الأقصى”؟.. وهل تعبّر تسمية المسجد الأقصى عن مفهوم سرة الأرض أم عن مفهوم آخر؟.
دعونا نلاحظ بداية أنه لو لم تنزل تسمية “المسجد الأقصى” من السماء في سورة الإسراء، لكان من المرجح أن يطلق عليه العرب المسلمون تسمية “بيت المقدس”، وهذا أمر يمكن استخلاصه ببساطة من حديث الإسراء، يرد في “صحيح مسلم” عن أنس بن مالك أن رسول الله صلعم قال: “أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه”، قال: “فركبته حتى أتيتُ بيت المقدس” قال “فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء”، قال “ثم دخلت المسجد فصليت ركعتين”، ويفهم من الحديث أن المعروف عند العرب آنذاك كان اسم “بيت المقدس”، وينقل أحمد عيد في كتابه “جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة” حديثاً نقله ابن إسحاق فيما بلغه فيه عن أم هانئ أن الرسول صلعم قال لها: “يا أم هانئ صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئتُ بيت المقدس فصليت هناك ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين”، وقد أراد أحمد عيد من خلال هذا الحديث وروايات أخرى أن يقنع القارئ بأن بيت المقدس لم يكن في فلسطين وإنما في اليمن!!.. ولكن ما يعنينا هنا ملاحظة أن الحديث ينصب على “بيت المقدس”، وأن اقتحام اسم “المسجد الأقصى” للمشهد إنما جاء من خلال سورة الإسراء.
وحين نعود إلى التفاسير يلفت انتباهنا أنه عند تفسير قوله تعالى “من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى”، فإن المفسرين يفسرون المسجد الأقصى ببيت المقدس أو القدس، وأما من الناحية اللغوية فقد أخذت كلمة “الأقصى” بمعنى البعيد أو الأبعد، أي بالدلالة الحرفية للكلمة، وقد يذهب البعض إلى أنه الأقصى أو الأبعد بالنسبة للمسجد الحرام، فهل نسلم بمثل هذا المفهوم للدلالة، أم نحاول البحث عن دلالة أخرى؟.
هناك أولاً ملاحظة قد لا ينتبه إليها أحد، ولكنها تستوجب الوقوف عندها والتأمل، ففي الحديث الشريف يرد في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلعم قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلعم، ومسجد الأقصى”، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلعم قال: “ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي”.
ما يلفت انتباهنا في الحالتين ورود كلمة “مسجد” دون اقترانها بأل التعريف، وهنا أمام صيغة “مسجد الأقصى” يصير من الصعوبة بمكان، بل من المستحيل، القول إنه المسجد الأبعد، وعندئذٍ لابد للأقصى من دلالة غير دلالة الأبعد، وإلا فإنه لابد لدلالة الأبعد من توضيح، إذ إنه من المنطقي في هذا السياق التساؤل: ومَن الأبعد؟ أو وما الأبعد الذي نسب إليه المسجد؟!.
اليهود ارتكبوا مذبحة كبرى
في القدس ضد المسيحيين
للوصول إلى معرفة هذه الدلالة لابدّ لنا من الانتباه إلى أنه توجد سورتان في القرآن الكريم تناولتا بيت المقدس وما حدث فيها، وأنبأتا بما سيحدث فيها لاحقاً، وهاتان هما سورتا “الإسراء” و”الروم”، وإذا كانت سورة الإسراء قد تناولت الإفسادين الأول والثاني لبني إسرائيل، وكان الأول قد انتهى عام 70م وفق دراسة الأحداث، بينما نحن نعيش الآن وقائع الإفساد الثاني المقترن بالعلو الكبير، فإن سورة الروم تحدثت عن هزيمة الروم عام 614م، وأنبأت بأنهم سيتغلبون على هازميهم، وأن المؤمنين سيفرحون بانتصارهم. والحقيقة أن اليهود كانوا قد جندوا جيشاً كبيراً، وأنفقوا مالاً كثيراً، واستغلوا الفرس في احتلال بلاد الشام، وارتكبوا مذبحة كبرى في القدس ضد المسيحيين ذهب ضحيتها وفق ما ذهب إليه إسرائيل شامير في كتابه “أزهار الجليل”، أكثر من 90 ألف ضحية، عدا عن تدمير المنشآت المسيحية، والغريب أن المفسرين والمؤرخين العرب قلبوا الصورة، وأعطوا انطباعاً بأن الضحايا آنذاك هم اليهود، وأن من سيفرحون بتغلب الروم على الفرس بعد أن هزموا هم أهل الكتاب من اليهود، زاعمين أن اليهود كانوا يتعرّضون آنذاك لاضطهاد الفرس، وهكذا أوصلت “الإسرائيليات” مضمون سورة الروم إلينا معاكساً للحقيقة.
على كل حال، ما يستوقفنا هنا في نطاق هذا البحث هو المقارنة بين ما جاء في السورتين حول الموقع الجغرافي المتمثّل ببيت المقدس، لقد جاءت سورة الروم لتقول “غلبت الروم+ في أدنى الأرض” الروم 2و3، بينما أعطت سورة الإسراء للمعبد في بيت المقدس اسم “المسجد الأقصى”، فكيف يمكننا أن نوفق بين دلالتي “الأقصى” و”أدنى الأرض” إذا نحن قبلنا بالمنطق القائل بأن التوصيف للمكان هو بالنسبة لموقعه من مكة أو المدينة أو جزيرة العرب؟.. كيف يوصف الموضع نفسه – إذا كان هذا هو المعيار- بأنه الأقصى مرة والأدنى مرة أخرى؟.. أو كيف تكون القدس هي أدنى الأرض بينما يكون مسجدها هو الأقصى؟.
لا مجال للتوفيق بين الوصف في الحالتين وفهم خلفيته إلا في حالة واحدة، وهي القول بأن الأقصى بالنسبة للأرض هو الأدنى بالنسبة إلى السماء، وهنا يمكننا القول بأنه حين أسري بالرسول صلعم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إنما أسري به إلى المكان الأقصى بالنسبة للأرض والأدنى بالنسبة للسماء ليعرج منها إلى السماء، وبغض النظر عن الدلالات الدينية لهذه الواقعة في الربط بين الرسالات والرسل بجعل بيت المقدس أرضاً لاجتماع الأنبياء والنبوات، فإن ما يعنينا هنا تحديداً هو مفهوم “الأقصى”، ومفهوم “أدنى الأرض”، والتثبت من صحة فهمنا لهما.
هنا لابدّ لنا أن نستذكر مرة أخرى صيغة الحديث الشريف عن “مسجد الأقصى”، وأن نطرح على أنفسنا السؤال: وما الأقصى؟.
إن كلمة “الأقصى” في حد ذاتها مفهوم مطلق، ولا يمكن تحديد هذا المفهوم بشكل عملي إلا إذا ربط بمفهوم المحور، ولو نحن جردنا الدلالة من مفهوم المحور القائم على التسليم بكروية الأرض أولاً، وبوجود محور لها ثانياً، وأراد أحدنا أن يحدد ما هو أقصى على وجه الكرة الأرضية انطلاقاً من مكان وقوفه، واستبعد مفهوم المحور، فسيكتشف أنه بحكم كروية الأرض فإن الأقصى بالنسبة له يتمثّل فيه هو نفسه، أي أنه هو الأدنى والأقصى في وقت واحد، وهكذا سيضيع مفهوم الأقصى عملياً.
إن الأقصى بالنسبة للأرض لابدّ أن يكون موجوداً في محور الأرض أو على محور الأرض، وما كان في محور الأرض أو عليه فإنه سيكون الأقصى بالنسبة إلى أي مكان آخر حتى وإن كان هذا المكان يبعد عنه عدة أمتار، وفي هذه الحالة سنفهم أن “المسجد الأقصى” هو المسجد المحور، وأن “مسجد الأقصى” هو مسجد المحور، ولا فارق في الدلالة بين الحالتين، ومسجد المحور هذا يمثّل “أدنى الأرض” بالنسبة إلى السماء، وأدنى الأرض بالنسبة للسماء هي أعلاها.
وحين نصل إلى هذا الفهم لدلالة “المسجد الأقصى” يصير الحديث عن “سرة الأرض” أو “الأرض الأم” التي دحيت من حولها بقية الأرض أمراً وارداً، حيث إن الأرض لابد أن تكون قد تشكّلت حول محورها، فسواء سميناه محوراً أو سميناه سرّة فإن الدلالة المقصودة واحدة.
“أقصى” تعني “محوراً” لغوياً
إن السؤال الذي يطرح نفسه علينا أخيراً هو التالي: كيف أمكن لكلمة “أقصى” أن تعني لغوياً “محوراً”؟.
في الواقع ما من جواب عندنا على هذا السؤال سوى جواب واحد، وهو أن كلمة aksi في اللغة السلتية القديمة تعني المحور، ومنها جاءت الكلمة الانجليزية axis، ونحن نعرف يقيناً أن السلت كانوا من أهل بلادنا القدماء ومن بينها مدينة القدس وما حولها، ونعرف أيضاً أن كلمة aksi السلتية يمكن أن يكون نطقها الأصلي أقصي أو حتى أقصى، والأهم هو أن استعمال كلمة aksi بمعنى محور قد لا ينطوي على دلالة علمية فقط، وإنما على دلالة دينية ميثولوجية أيضاً، والدليل على ذلك أن السلت ميزوا في زمانهم بين هذه الكلمة بمعنى “محور” أو “قطب” وبين كلمة aksila بمعنى محور العجلة والتي تحولت بدورها إلى الكلمة الانكليزية axle، فالتمييز بين الكلمتين على هذا النحو رغم اشتقاقهما من مصدر لغوي واحد يعني التمييز بين ما هو تصوّر ميثولوجي في النظر إلى الكون وبين ما هو عملي واقعي مثل تصنيع محور الدولاب أو العجلة، والتي هي بمثابة تقليد للعجلة الكونية، والتي كان يديرها موجه العجلة موغ رويث حسب الميثولوجيا السلتية.
دعونا نعترف بأن هذا التوضيح الأخير حول مصدر التسمية يضعنا أمام احتمال– ولو ضئيل جداً– في أن يكون المسجد الأقصى قد حمل في زمن قديم مرتبط بالحقبة السلتية تسمية “الأقصى”، وأن هذه التسمية تغرّبت وغابت، وحصل انفصال بين أصحابها وبين المكان، وجاءت سورة الإسراء لتعيد إحياء تلك التسمية وتثبيتها، وهذا الإحياء، وهذا التثبيت، يعني إقرار التصور المتعلق بمحور الأرض وسرّة الأرض، لكن هذا أيضاً يعني شيئاً كبيراً مهماً للغاية يجب أن نضعه في الاعتبار، وهو أن مسجداً أعطته السماء اسمه، لأنه لولا تسميته بالمسجد الأقصى في سورة الإسراء لما كان محتملاً أن يسميه المسلمون بهذا الاسم، فهو إذاً موقع أرضي ولكن تسميته منزلة، إن هذا المسجد، وإن استهدف بالاحتلال وربما أيضاً بمحاولة هدمه من قبل اليهود الصهاينة، إلا أن هذا الاستهداف لا يمكن أن يصل إلى غايته، لأن هذه الغاية تشكّل معارضة للإرادة الإلهية ومقاومة لها، ولا يمكن للباغي أن يفلح مهما حاول، وفي نهاية المطاف علينا أن نتذكر قوله عز وجل في سورة الإسراء في نطاق ما سيحدث في إنهاء الإفساد الثاني لبني إسرائيل من قوله تعالى عن المحرّرين “وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً”.
إن هذا المسجد هو الذي أنزل اسمه من السماء، وهو المسجد الذي يقع في “أدنى الأرض” بالنسبة إلى السماء، وهو المسجد الذي يقع على محور الأرض، ولذلك فهو المسجد الأقصى بالنسبة إلى أي مكان آخر على وجه الأرض لأنه الأدنى من أي مكان آخر إلى السماء، وإنه لفي سرة الأرض فلسطين ورحمها الوطن العربي أو وسط الأرض إذا نظر إلى الأمور من زاوية التكوين والخلق، وهذا المسجد يمثّل القبلة الأولى بالنسبة للمسلمين مثلما يمثّل القبلة للديانات السماوية الأخرى، وعامل وصل بين الجميع.
ويبقى التحدّي الذي تتعرّض له القدس ومسجدها وفلسطين وأهلها، ولا أحد يمكنه أن يفصل مواضيع الاستهداف عن بعضها البعض، فهي كل متكامل ينطبق عليه قوله سبحانه وتعالى “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” التوبة 33، كما أنه ينطبق على اليهود الصهاينة ومن يدعمونهم في استهدافهم للمسجد الأقصى قوله تعالى “ألم يعلموا أن من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم” التوبة 63.