دراساتصحيفة البعث

العلاقات الإيرانية التركية إلى أين؟

د. سليم بركات
يجمع إيران وتركيا الكثير من التشابهات، أكان ذلك فيما يخص المساحة الجغرافية، أم الموقع الجغرافي الاستراتيجي، ومع أن البلدين خاضا حروبا قاسية في مواجهة بعضهما عبر التاريخ، لكن علاقاتهما الثنائية كانت أكثر استقرارا منذ ترسيم الحدود بينهما في اتفاقية قصر شيرين 1638، وعلى الرغم من اختلاف التوجهات السياسية والمشاريع التحديثية داخل كل من البلدين، فإن العلاقات بينهما لم تتعد الطابع التنافسي إلى أشكال الصدام المباشر، والسبب في ذلك القوة المتعادلة بين الطرفين، والنظرة البراغماتية التي تحكم العلاقات بمعزل عن طبيعة النظام السياسي القائم، ما أحدث نوعا من التوازن في العلاقات على مبادئ غير صدامية، وأدى  فيما بعد إلى توقيع العديد من اتفاقيات التعاون منذ عشرينيات القرن المنصرم، وحتى يومنا هذا.
تحكم علاقة البلدين مجموعة من العوامل التي لا يمكن التغاضي عنها، بل لابد من أخذها بعين الاعتبار عند مقاربة هذه العلاقة، منها الصراع على العلمانية الذي أثار إشكالية تاريخية بين البلدين سببتها الطبيعة المذهبية، لاسيما في المرحلة العلمانية المتشددة التي أخذت بها تركيا، ولا تخفي إيران دعمها للتيارات الإسلامية في تلك المرحلة، قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ومنها أن تركيا عضو في حلف الأطلسي وهي ملزمة بالتقيد بقراراته الأمنية والعسكرية والسياسية، وهذا ما يجعلها على طرفي نقيض مع التوجهات التي تحكم مصالح الأمن القومي الإيراني السياسية والعسكرية. لكن تركيا غالبا ما كانت تلجأ إلى التحايل على أي قرار يشكل ضررا لإيران من قبل هذا الحلف، ومنها أن تركيا تتطلع إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وما تتطلبه هذه العضوية من شروط، بل من مناخات اجتماعية وسياسية واقتصادية، الأمر الذي يفرض ضوابط معينة على الحركة التركية تجاه إيران التي تنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه تجمع يفضي في النهاية إلى خدمة المصالح الغربية الاستعمارية، ومنها أن تركيا بلد يقيم علاقات متينة وواسعة مع إسرائيل على الرغم من وصول الإسلاميين الأتراك إلى السلطة، وهذا بلا شك يعيق التعاون التركي الإيراني حيث تعتبر إيران الثورة الإسلامية القضية الفلسطينية خطا أحمرا، كما تعد الكيان الصهيوني عدوا لابد من إزالته.
قضايا متعددة تتشارك فيها إيران وتركيا، وتشكل تحديا وتهديدا لسيادة كل من البلدين، منها المشكلة الانفصالية الكردية، ومع أن هذه المشكلة هي في إيران أقل منها حدّة في تركيا، لكنها قائمة في كل من البلدين، وهي تشكل حافزا للتعاون ليس على مستوى البلدين فقط، وإنما تمتد إلى مستوى الجوار، ولاسيما إلى العراق وسورية من أجل تطويق هذه النزعة الانفصالية، ومنها تنامي النزعة المذهبية بين الطرفين بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وما أدى إليه من نفخ لنارها العميقة في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي سهل على أمريكا ومن يغرد في سربها وفي الطليعة إسرائيل تحريك الفتن المذهبية، واستغلالها لتحقيق المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وهو استغلال أفضى إلى واقع جديد عماده التوتر والتطرف من أجل استمرار الاضطراب الأمني والسياسي على مستوى المنطقة، ومنها تقاطع الموقف التركي والإيراني الرافض للتدخلات الخارجية، والمشجع على  علاقات اقتصادية متينة، امتازت بنمو ملحوظ نحو علاقات سياسية وثيقة أدت إلى زيارات متبادلة، على أعلى المستويات، نظّمت مصالح الطرفين، لتصبح إيران من خلالها بوابة تركيا إلى آسيا، وبالمقابل تصبح تركيا بوابة لإيران إلى أوروبا. وهذا بدوره أدى إلى تطوير العلاقات التجارية بين البلدين بعد أن اعتمد كل من الريــال الإيراني والليرة التركية على مستوى البلدين في مواجهة الدولار الأمريكي ما سهل لرجال أعمال البلدين تطوير هذه العلاقات التجارية، ولاسيما في لحظات الأزمات الاقتصادية الدولية.
يضاف إلى جملة هذه التحديات التي تواجه العلاقات التركية الإيرانية ما يعرف بالملف النووي الإيراني، إذ على الرغم من وجود الضغوط الدولية على إيران فيما يخص هذا الملف، فإن تركيا لم تكن لتطرح مواقف حادة مغايرة لهذا البرنامج، بل كان الدور التركي إيجابيا ومتفهما، وأكثر إيجابية لصالح إيران، وفي إطار هذه المواقف كانت تركيا تسعى دائما في الاتجاهين الغربي والإيراني إلى التواصل الدائم مع القيادة الإيرانية لحثها على عدم التصعيد في المواقف، وعلى إبقاء الباب مفتوحا على الحوار، بل فعلت أكثر من ذلك حيث لعبت دور الوسيط بين إيران والغرب، ومن خلال سلوك لا يسمح للغرب بالتحيز لمصلحة إسرائيل، كما لا يسمح بالتركيز على إيران واستفرادها.
يتمثل الموقف التركي فيما يخص الملف النووي الإيراني بالاعتراف في حق إيران باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما يتمثل بمواقف تركيا الواثقة من إيران، والمطالبة في أن تكون المنطقة كلها خالية من الأسلحة النووية، ولاسيما من الترسانة النووية الإسرائيلية، وفي إطار الحلّ الشامل. ومن هذا المنطلق ترفض تركيا أي عقوبات اقتصادية يمكن أن تتخذ بحق إيران، وتؤثر على  مصالح تركيا الاقتصادية، أو تدفع بإيران إلى المزيد من العزلة المسببة للتوتر في المنطقة، وبالتالي مازال الموقف التركي ثابتا تجاه إيران بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، أكان ذلك فيما يخص فرض العقوبات، أم من خلال توجيه ضربة عسكرية أمريكية إلى إيران، أم مجرد تهويل أو تلويح، لأن مثل هذا السلوك تجاه إيران يعدّ ضربا من الجنون، وتركيا ترفض المشاركة فيه، كما ترفض أن تقدم أي تسهيلات عسكرية، أو أمنية، أو استخباراتية، أو لوجستية، أو أن تستخدم أراضيها، ومجالها الجويّ لأي قوات تضرب إيران، وهذا ما عزز العلاقات التركية الإيرانية ودفع بها نحو المزيد من التكامل، “تغليبا لعوامل القربى والجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة والمصير المشترك” كما تدعي تركيا.
في كل الأحوال يمكن النظر للعلاقات التركية الإيرانية، على أنها حالة من التنافس تسودها حسابات عقلانية تحقق فوائد ومصالح محددة للطرفين، وهذا لا يمنع من أن تتحول هذه العلاقات باتجاه المزيد من التعاون، أو باتجاه الصراع وفقا لهذه المصالح، ولما كانت كل من إيران وتركيا قوتين أساسيتين في المنطقة، فإن لكل منهما مشروعه، وبالتالي قد تتباين وجهات النظر في الكثير من الملفات والقضايا الإقليمية والدولية، وبالاعتماد على معطيات التاريخ ومقومات الجغرافية السياسية، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد الكثير من التنافس الدولي على المنطقة، والذي تسعى إليه أمريكا ومن يغرد في سربها إلى تقويض الدور الإيراني وتحجيمه لمصلحة إسرائيل.
على الرغم من الشحن الإقليمي والطائفي المتبادل في المنطقة والمدعم من التحالف الأمريكي الإسرائيلي الرجعي، لم تنح العلاقات التركية الإيرانية منحى الصراع، كالذي يحدث من السعودية تجاه إيران، ومع أن تركيا تؤيد هذا التحالف، لكن العلاقات التركية الإيرانية مازالت في إطار التنافس الهادئ الضامن لإعادة التوازن على مستوى المنطقة، وليس تصعيد المواجهة. وربما أدت الترتيبات الدولية المتعلقة بأزمات المنطقة، ولاسيما الأزمة السورية، بالإضافة إلى ملفات التعاون الاقتصادي والعلاقات مع روسيا، ومواجهة سياسة ترامب، إلى إبراز الدوافع لتحسين العلاقات الإيرانية التركية. وليس من المستبعد أن تفضي تطورات الأحداث نحو تحالف تركي إيراني يضم روسيا والصين، وربما دفع تضارب الأهداف نحو الحذر، ليكون التقارب تركيا أمريكيا، وهذا متوقف على المآلات النهائية للموقف التركي فيما يخص الأزمة  في سورية.