فيلم “غزيّة” المغربي: الحلم الفردي جزء من حلم أكبر

إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي يعيدنا “نبيل عيوش” مخرج فيلم “غزية” إلى قرية صغيرة بعيدة عن ضجيج المدينة، وبالتحديد إلى مدرسة القرية، إلى المعلم عبد الله بعلاقته الخاصة مع تلامذته، عبر مشروعه الخاص في التعليم، يتشرب فيه الطلاب التاريخ بلغة الشعر، ويأخذهم إلى الطبيعة والهواء الطلق حيث تصبح العلوم والجغرافيا في متناول الأيدي وأقرب إلى العقول. كل هذا بلغة هي خليط ما بين الأمازيغية واللهجة المغربية المحكية والعربية، مزيج هو وسيلة التواصل المتعارف عليها وأسلوب تبادل المعلومة، وسيلة سوف تصطدم بقرار التعريب المفاجئ الذي يجبر الطلاب على اعتماد لغة جديدة لا يعلمون شيئاً عن أساليبها وأدواتها ولم يتم إعدادهم لها، تصبح اللغة التي يفترض أن تكون صلة الوصل هي جداراً فاصلاً بين ما تعلموه وبين ما هم قادمون عليه.

فسيفساء
سيغادر المعلم عبد الله المكان إلى المدينة إلى كازابلانكا الواسعة بعيداً عن القرية الصغيرة، وهناك سيختفي في الزحام، رغم عين مشاهد سيبقى يفتش عنه عبر عدسة الكاميرا، سيغادر مبقياً سؤاله يرن في الأذن “ما فائدة اللغة حين تصادر الأصوات، ما فائدة الإيمان حين تُسرق الأحلام”.
الكاميرا ذاتها التي لم تتعب من تعقب عبد الله ستأخذنا بشكل مباشر إلى العام 2015 إلى زمن ثورات الربيع التي اجتاحت العالم العربي بكل ما استقدمت من خراب ودمار، إلى الأطراف وعلى هامش المدينة عوالم أخرى مختلفة تتجسد بعدد من الشخصيات، فها هو “حكيم” ابن مدن التنك، الذي يعمل نجاراً يعشّق الخشب في النهار بينما يأخذه الحلم والطموح بأن يكون في المستقبل “فريدي ميركوري المغرب” إلى الغناء، وفريدي صاحب أغنية “أريد أن أكون حراً” مغني فرقة كوين البريطانية ذو الميول الشاذة هو أيقونة حكيم المفضلة التي تعبر عنه وعن ميوله التي تعرضه إلى سخرية من حوله دائماً، لكن المحيط المنغلق والتحفظ الذي تحكمه التقاليد والممنوعات لا بد سوف يلفظ حكيم بعيداً إلى الأطراف.
من جهة أخرى تذهب الكاميرا بالمشاهد إلى حي ليس بالبعيد إلى حي الأغنياء حيث تعيش المراهقة “إيناس” البورجوازية التي تبحث عن هويتها وذاتها في مكان غريبة عنه ولا تواصل بينها وبينه. ثم هناك جوزيف واحد من أبناء الأقليات الدينية التي لم تغادر المكان، يمتلك مطعماً فخماً يوفر له عيشاً كريماً يعمل لديه عدد من العمال من بينهم إلياس البسيط الذي ينظر إلى الدنيا من منظور خيالي لا ينتمي إلى الواقع، يضمه إلى مجموع الغرباء عن مجتمعهم إلى جانب إيناس، جوزيف وحكيم.

سليمى
الشخصية المتمردة الوحيدة التي يلقي الفيلم الضوء عليها والتي لا بد منها كي يكتمل فسيفساء المدينة الواسعة سوف تكون “سليمى” الجميلة المتزوجة والتي تتعرض لتعنيف دائم من زوجها في سبيل مصادرة أحلامها بالحرية والتباهي بأنوثتها وجمالها، لتعيش صراعاً دائماً بين نوازعها إلى الحرية وبين مجتمع يفرز متحرشين يترصدونها في الشارع وتقاليد ترفضها، لتأخذها شياطينها إلى “إيتو” العجوز والدة “إلياس” الهاربة من قريتها الصغيرة البعيدة بحثاً عن حبيب لن تجد له أثراً سوى في خلفية الفيلم، غادر قريته قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ستشارك “سليمى” في حفلات السحر والشعوذة وطرد الجان، لنكتشف في لحظة ما أن الحبيب ليس سوى “عبد الله” الذي هجر قريته تاركاً طلابه ومن بينهم إلياس الذي ورث عنه عشق اللغة وجمالياتها، ورويداً رويداً سنكتشف الحضور الكبير للمعلم طوال الفيلم، عبر تلامذته الذين سيجمعهم في النهاية حفلاً يقيمه مراهق ثري تأتيه سليمى صديقة له، ويحضر حكيم كعازف في الفرقة التي تحيي السهرة، بينما يعتمد جوزيف على تنظيم الحدث ليكون أحد الحاضرين، سيسير الحفل عادياً حتى يبدأ بعض المراهقين بالسخرية من حكيم لينتهي الأمر إلى عراك كبير يفجر عبره حكيم كل الحقد والقهر المكبوت في داخله، في تعبير عن الواقع الحقيقي بين بيئتين ومكونين اجتماعيين، القياس بينهما قائم على الثروة وقوة السلطة.
سينأى جوزيف عن العراك يقف على الحياد كمشاهد طالما أن الضرر لن يلحق بمصالحه، وفي الخارج سنلمح سليمة من خلف زجاج السيارة ترقب حدثاً قام بالتوازي حيث حراك من نوع آخر لجموع تطالب بالعدالة والحرية، تنظر إليه بسخرية وازدراء إذ ليس سوى ذات المجتمع الذي لطالما رفضها رفض حريتها ورغباتها. وما بينهم سيظهر حكيم ذي الميول الشاذة وابن “إيتو” التي ما زالت في سعيها للوصول إلى حبيبها “عبد الله” حيث لن تراه وهو يجلس على كرسيه الخشبي الذي قدمه له إلياس ذات يوم، يرقب بهدوء تلامذته المنخرطين بين الجموع الهائجة.
سيختار المخرج نهاية فيلمه بمشهد سليمى المتمردة التي ارتدت ثياب البحر وولت وجهها شطر مائه الهادر وقد تخلت عن زوجها المعنف واحتفظت بجنينها على أمل أن تحقق الأيام القادمة ما تحمله من أحلام. لينتهي العمل إلى مقولة واضحة بأن “حرية الفرد مرتبطة بحريات الآخرين وأن أحلامهم ليست سوى جزء من حلم أكبر لمجتمع أوسع هو مجتمع كازابلانكا” مكان الحدث التي أصر المخرج على تقديم العمل كرسالة عشق للمدينة التي يهيم بها وتقديمها للمشاهد على حقيقتها بتناقض مكوناتها وألوان فسيفسائها، أو لعله رسالة اعتذار عن فيلمه “الزين اللي فيك” الذي قدمه قبل أكثر من عامين وتعرض فيه لموضوع بنات الهوى واحتوى على الكثير من المشاهد الجريئة والمرفوضة التي أغضبت جمهور بلده.
بشرى الحكيم