دراساتصحيفة البعث

فرنسا والتبعية المطلقة لواشنطن

 

ترجمة: هيفاء علي

عن لو غراند سوار 12/6/2018

منذ عهد الجنرال شارل ديغول، مؤسّس الجمهورية الخامسة، غدت السياسة الخارجية “مجالاً محظوظاً” لرئيس الدولة بحسب السلطات التي يخوّلها له الدستور. لذلك يسعى كل مرشح للانتخابات الرئاسية لإبراز تميّزه وكفاءته على أنه أفضل من يقود سياسة البلاد الخارجية، إلا أن هذه الصفات والمؤهلات لا تنطبق على  نزيل الاليزيه الحالي الذي يفتقر إلى الخبرة في مجال السياسة الخارجية، ويجهل طبيعة العلاقات الدولية فيها بحكم اختصاصه في المجال الاقتصادي وبحكم قدومه من عالم المال والأعمال. ومع ذلك أطلق أثناء حملته الانتخابية الرئاسية وعوداً طنّانة بإجراء القطيعة التامة مع سياسة أسلافه، وتحقيق الاستقلالية التامة للقرار الفرنسي ولسياسة فرنسا الخارجية وإرساء الأمن وإنعاش الاقتصاد فيها، إلا أنه وبعد مضي مائة يوم على تسلمه مقاليد الحكم أثبت عكس ذلك، ولم يحقّق أياً من هذه الوعود بل فشل فشلاً ذريعاً. وهو لم يواصل تبعية السياسة الخارجية لواشنطن التي واصلها سلفاه ساركوزي وهولاند فحسب، وإنما عمل على تكريسها بقوة ليثبت جهله وانعدام خبرته، ويبرهن على أنه مغامر ومتهور، خاصة إزاء الأزمة السورية، حيث دعا ترامب إلى عدم سحب قواته من سورية وإبقائها لفترة أطول بذريعة أن بقاءها مهمّ للحلف الأطلسي ولفرنسا أيضاً، كونها تريد العودة للعب دور في المنطقة تحت مظلة الحلف. قبلها انضم إلى ترامب وتيريزا ماي لشنّ عدوانهم الثلاثي الغاشم على سورية بذريعة الرد على الهجمات الكيميائية المزعومة في دوما، وثمّة معلومات صحفية غربية تؤكد حصول ماكرون على 6 مليارات دولار من السعودي محمد بن سلمان مقابل مشاركته في العدوان، كما أرسل وحدات فرنسية خاصة إلى الشمال السوري، تحديداً في منبج إلى جانب القوات الأمريكية والبريطانية المتواجدة هناك في خرق صارخ لسيادة سورية وللقانون الدولي. ومؤخراً أعلنت باريس أنها لن تسحب قواتها من سورية ما دامت القوات الأمريكية متواجدة فيها، في دلالة واضحة على التبعية المطلقة لواشنطن، إذ يبدو أن ماكرون بات بيدقاً بيد إدارة ترامب يحركه حيثما ومتى شاء!.

مراقبون يفسرون الأمر بأنه محاولة من قبل ماكرون لانتزاع إنجاز ما في الخارج للتغطية على فشل سياسة بيته الداخلي وفشل برنامجه الاقتصادي، وبالتالي للتغطية على تراجع شعبيته لأدنى مستوى لها بدليل موجة الاحتجاجات العارمة المتواصلة حتى الآن، التي أضرمها عمال شركة الخطوط الحديدية والخطوط الجوية الذين  نظموا إضراباً عن العمل مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية، ومن ثم انضم إليهم طلاب الجامعات تعبيراً عن احتجاجهم على اللوائح التنظيمية الجديدة الهادفة إلى تضييق فرص الالتحاق بالجامعات أمام أبناء الشرائح الأشد فقراً.. ويبدو أن إدارة ماكرون عاجزة عن القيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية بل تفضّل تبني النهج الليبرالي المتطرف، كما يتضح من مخطط ماكرون لتخصيص 300 مليار يورو للإنفاق العسكري حتى عام 2024، كما أنها تخطّط للانقضاض على المكاسب التي حصلت عليها الفئات المحرومة وتتبنى نهجاً يرضي القابعين في قمة الهرم الاجتماعي من خلال إلغاء الضرائب على الثروات الكبرى. وأشار استطلاع للرأي إلى أن كل ستة فرنسيين من أصل عشرة أعربوا عن استيائهم من سياسات ماكرون الداخلية والخارجية على حدّ سواء. فيما شنّت الصحافة الفرنسية حملة شعواء على ماكرون أثناء زيارته لأمريكا، وعلقت على صور اللقاءات وتكرار القبل وشدّ الأيادي بين ماكرون وترامب بالقول إنها مثيرة للضحك وتدعو للسخرية وتكشف عن خضوع ماكرون لترامب ومحاباته المفرطة له. وأشارت صحيفة “لوموند” إلى أنه لن تُمحى من ذاكرة الفرنسيين صورة ترامب وهو يمسك بيد ماكرون ويجره خلفه كطفل صغير، فالفرنسيون شعروا بالإهانة واعتبروا أن ما فعله رئيسهم أساء لصورة بلادهم. كما سخرت من إجابته على سؤال طرحه عليه صحفي فرنسي في المؤتمر الصحفي، قائلاً: “لماذا تعمل على تحطيم النقابات الإضرابات… إضراباتنا واحتجاجاتنا ضد إصلاحاتكم الاقتصادية سيدي الرئيس؟”. فما كان من  ماكرون إلا الردّ عليه هكذا: “إذا أردت أن تحكم بلادي، خذ مكاني وقدم نفسك للفرنسيين كي ينتخبوك”. هذه الإجابة أثارت سخط الفرنسيين والرأي العام الفرنسي، حيث اعتُبرت إجابة غريبة تصدر من شخص مفروض أنه رئيس الجمهورية.

وبالعودة إلى الوراء قليلاً للتذكير بأن فرنسا دفعت موقفها العدائي تجاه سورية منذ عهد نيكولا ساركوزي، ومع بداية الأزمة السورية إلى أبعد ما يمكن تصوره، إذ تحوّلت باريس إلى تابع أساسي للولايات المتحدة بعدما رفض البرلمان البريطاني الترخيص لحكومة ديفيد كاميرون للمشاركة في عمل عسكري ضد سورية بقيادة واشنطن. وكانت الصحافة الفرنسية قد اتهمت ساركوزي بالتقرب من السياسة الأمريكية أكثر مما يجب، وكان التدخل الفرنسي المباشر في ليبيا وضلوعه في العدوان عليها من بين المآخذ التي سجّلها الاشتراكيون على حكومة اليمين الفرنسي. وقد استمات ساركوزي في الدفاع عن مواقفه مبرراً بأنها لحماية مصالح فرنسا وتعزيز دورها في أفريقيا والمنطقة العربية، حيث شهدت فترة حكمه تحولاً عميقاً في السياسة الخارجية الفرنسية التي تبنّت التوجهات الأمريكية بالمطلق واختارت أن تكون تابعاً لأمريكا كما فعلت بريطانيا عقب نهاية الحرب العالمية. بعد ذلك أتت حكومة الاشتراكي فرانسوا هولاند لتواصل نهج سلفه اليمين، في دفع فرنسا في الاتجاه نفسه. فقد أصبح الموقف الفرنسي من الحكومة السورية أكثر تشدداً، حيث واصل السعي لحشد الدعم الأوربي
“للمعارضات السورية” وطرح قرارات لإدانة الحكومة السورية  في مجلس الأمن، غير أنها جوبهت بالفيتو المزدوج الروسي- الصيني أكثر من مرة. وقد تولّت باريس هذه المهمة نيابةً عن الولايات المتحدة الأمريكية، كما لعبت دوراً محورياً في استصدار قرار أوربي برفع حظر تزويد “المعارضة” بالأسلحة، هذا عدا عن قيامها بدعم الإرهابيين في سورية بالسلاح والمال، غير أن هذه السياسة لم تحقّق أي تغيير في موازين القوى في ميدان المعركة.

المبرّر الذي استخدمته الحكومات الفرنسية الثلاث في عهد كلّ من ساكوزي وهولاند وماكرون، هو قيام سياسة فرنسا الخارجية على الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والالتزام الأخلاقي يفرض عليها المساهمة من أجل تغيير نظام الحكم في سورية، إلا أن هذا التفسير الأخلاقي لم يجد له ما يبرره. فقد عارضت حكومة جاك شيراك عام 2003 وبشراسة الغزو الأمريكي للعراق أمام مجلس الأمن، واعتبرت أن الأدلة التي قدمها كولن باول حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل غير مقنعة وغير كافية لغزو العراق، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش للمضي إلى الحرب وحيداً ومن دون تفويض أممي. في تلك الأثناء، شهدت العلاقات الفرنسية- الأمريكية توتراً كبيراً على خلفية الموقف الفرنسي ولم يتمّ تجاوزه إلا بعد مغادرة شيراك وقدوم ساركوزي إلى الحكم.

التحول الذي حصل الآن هو أن باريس لم تعد تعير اهتماماً للمبررات القانونية والأخلاقية، بل تتبع قرارات الإدارة الأمريكية بالمطلق وهي التي تجد صعوبةً في إقناع الحلفاء وحتى الشعب الأمريكي بمصداقية الأدلة التي تزعم امتلاكها. الرئيس الفرنسي السابق هولاند مضى أبعد من ذلك عندما صرّح في مؤتمر صحفي على هامش قمة العشرين بأنه سيبقى في انتظار ما يقرّره الكونغرس الأمريكي إزاء توجيه الضربة ضد سورية.. إلا أن أمله خاب عندما ألغى أوباما قراره توجيه الضربة لسورية.

التفسير الآخر للاندفاع الفرنسي تجاه الحرب هو الارتباط التاريخي  للحكومات الفرنسية  باللوبي الصهيوني ودعمها المتواصل لـ”إسرائيل”، ونعلم جميعاً حجم الضغط الذي تمارسه تل أبيب على الأمريكيين وحلفائهم لشنّ عدوان على سورية ينهي قوة الجيش العربي السوري، ولاسيما عقب الانتصارات الكبيرة التي يحقّقها في ميادين المعارك.

حقيقةً، لم تخرج فرنسا من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى، كما كانت عليه، على الرغم من استحواذها على مقعد دائم في مجلس الأمن، بل غدت “قوة متوسطة” بحسب تعبير الرئيس فاليري جيسكار ديستان. وقد شاركت في التحالفات التي قادتها واشنطن في محاولة منها لتحتفظ لنفسها بمقعد في الصف الأمامي من الأمم، بحسب تبرير ميتران لانضمامه إلى التحالف الأمريكي في حرب الخليج الثانية، والذي تسبّب باستقالة وزير دفاعه وقتها، جان بيار شوفينمان الذي رفض تلك المشاركة. بعد نهاية الحرب الباردة اختلفت الأمور ولم يعد هناك معسكران تحاول باريس الوقوف بينهما، لكن اختفاء الاتحاد السوفييتي السابق حرمها هذا الهامش الظاهري ووضعها أمام المعادلة التي أطلقها جورج بوش الابن “إما معنا أو مع الإرهاب”!.

هكذا انتقلت باريس إلى ما سمّاه محلّلون “الاستقلال المركب”، أي البقاء إلى جانب القوة الأمريكية دون الابتعاد عن القوى العظمى المنافسة مثل روسيا والصين. وعليه، فإن فرنسا لا تستطيع اتخاذ قراراتها الخارجية من دون النظام الدولي والقوى العظمى الأخرى المسيطرة عليه.