أوروبا.. الكارثة الاستراتيجية الثالثة ومستقبل نظام ويستفاليا
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
مفهوم توازن القوى هو الطريقة الأجدى، وإن لم تكن المثالية، للحفاظ على السلام بين الدول، ولهذا السبب ساد هذا المفهوم من منتصف القرن الـ 17 إلى أوائل القرن 20، أو عملياً طوال الفترة التي سيطرت فيها أوروبا على الشؤون العالمية، لقد كانت أول كارثة جيوسياسية في أوروبا (1914-1918) هي التي وضعت حداً للتوازن، ولتطبيق هذا التوازن على الحروب القائمة على القواعد ذاتها، بعد الحرب العالمية الثانية، تم تخفيض عدد القوى العالمية المهمة إلى اثنتين فقط: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي السابق، حيث لم تكن العلاقات بينهما علاقات توازن للقوى، بل تم تحويلها إلى احتواء من حيث المضمون، والردع المتبادل كوسيلة للحفاظ على السلام العالمي.
اليوم، يتغير اصطفاف القوى في العالم مرة أخرى، فبعد أن كانت الصين والهند هدفين سابقين في اللعبة الكبرى، تبرزان كمصدر للتوسع والهيمنة كحق لهما، بما في ذلك خارج محيطهما، والأرجح أن أوروبا تقف على عتبة كارثتها الجيوسياسية الثالثة (الضربتان الأخريان في 1914و1939)، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارتها النهائية لقوتها، ففي عام 2014، تصاعد الصراع الطويل بين أوروبا وروسيا إلى مرحلة متقدمة، إذ أصبح ممنهجاً، لذا فإن القوى الأوروبية قد تخسر أهم مورد دبلوماسي لها، والقدرة على وضع بيضها في العديد من السلال، فحتى أثناء الحرب الباردة الأولى (1947-1991)، احتفظت فرنسا، على سبيل المثال، باستقلالية ذاتية نسبياً، لكن هذا لا يحدث الآن، ولذلك، فإن مسألة ما إذا كانت الأحداث في أوكرانيا نهجاً رئيسياً، أم أنها مجرد خلاف عادي فحسب، وإن كان حاداً بين الشركاء الاستراتيجيين، لها أهمية حاسمة بالنسبة لمستقبل أوروبا.
يمكن اعتبار زيارات زعماء الدول الأوروبية الكبرى، ألمانيا وفرنسا، لروسيا، بمثابة إعادة تأكيد على الرغبة في الحفاظ على إطار العلاقات التاريخي مع روسيا من جانب الأوروبيين الذين احتفظوا بقدر من المكانة، لكنها قد تثبت أيضاً أن الخطوات التكتيكية فشلت في تغيير الاتجاه العام نحو ضعف المواقف الدولية لأوروبا، العالم الجديد قاس، ومن المرجح تماماً أن الأوروبيين سيكونون قادرين على الاستمرار فيه فقط تحت سيطرة حلفائهم الأمريكيين الصارمة ورقابتهم، في غضون ذلك، ستصبح المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية الأوروبية، والتي تعود إلى قرون مضت، مسؤولية لاعبين مختلفين كلياً.
في هذه الأيام نشهد الذكرى السنوية الـ 400 لحرب الثلاثين عاماً، النزاع المسلح الأكثر أهمية في تاريخ البشرية، لقد بشر تدمير براغ في 23 أيار 1618 عندما ألقي الممثلان البروتستانت التشيكيان من قبل ضباط الامبراطور من نوافذ قلعة براغ خارجاً، بحرب شاملة في أوروبا، كانت أشد الكوارث فتكاً في تاريخ العالم المسيحي المعاصر، كان السبب الأساسي لهذا الصدام هو استياء مراكز القوى الجديدة، الدول البروتستانتية وفرنسا من هيمنة الامبراطورية الكاثوليكية لآل هايسبورج على أوروبا الوسطى.
جرت الأعمال الحربية بقسوة بالغة، حيث خسرت الأراضي الألمانية 40٪ (وفي بعض الأماكن 70٪) من سكانها المدنيين، واحترق ثلث المدن الألمانية.
وبينما كانت الحرب في بدايتها عبارة عن صراع منظم بشكل جيد ويتمحور حول الاختلافات الدينية، تحولت إلى حرب كلاسيكية الجميع ضد الجميع مع اقتراب نهايتها التي لم تشكّل سوى مقارنة الحروب الثورية والنابليونية التي شنتها فرنسا بعد قرنين من الزمان والحرب العظمى في الفترة من 1914 إلى 1918، والتي يمكن أن تحجب حرب الثلاثين عاماً في الحجم، نحن لا نتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي أصبحت حرباً عالمية بالمعنى الجغرافي أيضاً.
لكن الأهمية التاريخية الحقيقية لهذه الأحداث التي تعود إلى 400 عام ليست في نطاقها أو الأضرار الناجمة عن أعمالها العدوانية، فقد أثبتت الصراعات المذكورة أعلاه بعد كل شيء في وقت لاحق أنها أسوأ من ذلك، لا نتحدث عن الحروب التي دارت في الحضارة الصينية العظيمة.. إن حرب الثلاثين عاماً شكّلت محور تاريخ العالم بسبب تأثيرها على تطور النظام السياسي الدولي، وقد لاحظ هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” أن تألق نظام ويستفاليا وسبب انتشاره في جميع أنحاء العالم هو أنه كان إجرائياً أكثر منه موضوعياً.
لقد شهد عام 1648 تطور أولى قواعد العلاقات الدولية على الإطلاق، والأهم من ذلك أنه كرّس الاعتراف العالمي المتبادل بالشرعية والمساواة الرسمية للدول كأعضاء في النظام الدولي، رسمياً، تم خرق مبدأ المساواة مرة واحدة فقط عندما تم تأسيس مجلس الأمن الدولي من دوله الخمس دائمة العضوية، والتي كان لها الحق في الاعتراض على القرارات الإلزامية لجميع دول العالم الأخرى، وهناك مبدأ آخر في ويستفاليا كان “مبدأ الرعية يتبعون حكامهم” المستعار من “سلام أوغسبورغ” عام 1555، والذي كان يهدف إلى فرض حظر فعلي على الحروب الدينية، لكن المعاهدات احتوت أيضاً على أحكام مادية بحتة تتعلق بانتقال الأقاليم، دعونا نلاحظ أن قواعد ويستفاليا لم تنظم بأي حال من الأحوال انتقال أراضي دولة إلى أخرى، ولم تكن مقيدة لهذا الانتقال، وبالتالي أمضت القوى الأوروبية القرنين التاليين بالقتال في الغالب من أجل الأراضي والموارد.
الأساس المادي المتمثّل بالقوة العسكرية هو أيضاً متأصل في المبدأ الأساسي الثالث لنظام ويستفاليا، وهو توازن القوى، أو مجموعة قدرات الدول، حيث لا يمكن لأي منها أن يكون أقوى من الآخرين مجتمعين، هذه القاعدة بقدر ما كانت مهمة للحفاظ على سلام أكثر أو أقل، بقدر ما كانت صعبة التطبيق بشكل عملي، لا يمكن أن يُقيد نمو القوة النسبية للدولة الدولة المعنية، لأن هذا الأمر غير طبيعي، ولكن يجب على الآخرين أن يكونوا أقوى من تلقاء أنفسهم، وأن يكونوا مسؤولين عن ذلك، وبالتالي يمنعون الهيمنة المحتملة من أن تصبح أحادية بشكل رسمي، ويبرز الخطر عندما لا يمكن وضع حدّ طبيعي نهائي لقوة الآخرين على المستويين العالمي والإقليمي.
خلق انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة الأولى فرصة افتراضية لوقف الاحتواء والردع المتبادلين، ولم يعد هناك تفكير في التوازن، علاوة على ذلك، كانت هناك شروط مادية مسبقة لذلك في تسعينيات القرن العشرين، وأوائل الألفية الجديدة، كانت الولايات المتحدة من حيث قوتها المشتركة، وكل مكونات قوتها، بغض النظر عن النووي، الزعيم الذي لا ينافس، والذي لا يمكن لأي أحد الوصول إلى مستواه، إلى جانب ذلك، جعلت القدرات المشتركة لروسيا والصين، في ذاك المنعطف التاريخي، والأهم من ذلك نوعية العلاقات السياسية بينهما، جعلت من المستحيل لهما أن توازنا أمريكا مجتمعتين، لكن هذا الوضع تغير في السنوات الأخيرة، ومع ذلك، لايزال الاحتواء أو الردع المتبادلان أساس السلام بين أكثر الخصوم المحتملين على الأرجح، روسيا والولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه ، تتقارب روسيا والصين بسرعة، ويكمل إحياء القدرات العسكرية لموسكو ازدياد قوة بكين الاقتصادية (والآن العسكرية)، وهما قادرتان معاً على موازنة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، إن لم تفعلا ذلك بالفعل، وفي الوقت نفسه، تحتفظ كلتا القوتين بعناصر احتواء متبادل في علاقاتهما مع أمريكا، وهو احتواء وصفت روايته الكلاسيكية بذكاء من قبل جورج كينان قبل 70 عاماً، إنه يتعلق بتقييد تمدد شريك وخصم استراتيجي، في نهاية المطاف، ستحافظ الدول الثلاث الكبرى على كل من مبادئ التوازن المتأصل في النظام الدولي، والاحتواء، والردع في القرن العشرين، وكما هو متوقع بشكل متكرر، يستمر الأخير في لعب دور إيجابي.
وفي المقابل، لم يعد من الممكن النظر إلى أوروبا، بإمكانيتها المنهكة، كعنصر من عناصر التوازن العالمي، إن الهند في طريقها إلى أن تصبح من عناصر التوازن، سيؤدي انضمامها إلى تهيئة الظروف للنظام الدولي للعودة إلى ما كان عليه في النصف الأخير من القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر، عندما تم الحفاظ على توازن القوى التقليدي، وعلى الرغم من تصارع الدول في حالات متكررة، لم تصل إلى “النهاية المميتة”.
بصورة مشتركة، ستتمكن القوى الأربع، من خلال تنظيم شركاء أصغر وأقل قوة في تحالفات، من تفادي نزاع كلي إلى حد ما، وبالطبع، فإن هذا النظام بعيد كل البعد عن نضج، (لنستخدم المصطلح الذي ابتدعته المدرسة الانكليزية للعلاقات الدولية)، التوازن الذي كان سائداً في الفترة بين مؤتمر فيينا عام 1815 وكارثة عام 1914، لكن هذا أفضل من الفوضى التي أعقبت فشل محاولات قوة معينة لفرض هيمنتها بعد عام 1991، والسؤال الذي سيظل يطرح نفسه على المدى الطويل: كم سيستغرق قيام هذه الحالة الدولية الجديدة؟.. إذا كان الحال مثلما كان في الماضي، فستستمر مدة 150-200 سنة، يمكننا أن نكون متفائلين بشأن المستقبل.