الفن العربي الحديث.. ظهور اللوحة
يحتاج الفن العربي الحديث إلى تاريخه، وإلى اندراجه في الثقافة المحلية، وفي تطلعات اجتماعية وخيارات ذوقية لدى نخب محلية، خصوصا وأن هذا الفن عرف نقلة قوية في العقود الأخيرة، تمثلت في حضور متزايد لأعمال الفنانين العرب في منتديات سوق الفن العالمي وفي متاحفه الكبرى. كما تمثلت، قبل ذلك، في قيام متاحف لحفظه وعرضه في العالم العربي، فضلا عن صالات العرض، وفي نشوء مجموعات متعاظمة لمقتنيه، ولا سيما في بلدان الخليج. وهي مؤشرات متراكمة عن قبول ثقافة الصورة، بما فيها الفنية، لكنها قد تشير كذلك إلى قبول “مشروط” بمجموعة من المسبقات والإكراهات، ومن الممنوعات والمرغوبات. وفي هذا السياق من الاهتمام الثقافي والبحثي الفني فقد صدر عن المركز الثقافي العربي “بيروت– الدار البيضاء ” الكتاب الجديد للباحث اللبناني شربل داغر، مشتملا على صور لأعمال فنية ملونة بعضها غير معروف، وقد قدم الكاتب كتابه في تعريف للمحتوى القائم على تتبع ظهور اللوحة التي لم يكن من السهل توفرها في بيئة خارج مكان ولادتها الحقيقية، بحكم انتقالها أو استيرادها من خارج المحيط كالمدن الإيطالية في مناخ حراك عثماني عربي أوروبي، مما اقتضى التتبع والفحص عن كيفية دخول هذه الأعمال الفنية ووصولها، وكيف استقبلت أو اعترض على استقبالها، لأن مضامينها التمثيلية والتصويرية تحمل قيما وعادات متأتية تخالف المنطق السائد في المكان الجديد المحكوم بموقف الفقهاء وسياسات الخلفاء والولاة، ولهذا كان “ظهور الفني” ظهورا سياسيا واجتماعيا، وما رافق هذا الظهور من أحوال القبول والاعتراض يعود لأسباب دينية واجتماعية قبل أن تكون تقنية أو مهنية جمالية.
ويوضح الكاتب أن لهذه الأسباب وغيرها توجه بالدرس لتفقد انبثاق اللوحة في القصر والبيت قبل صالات العرض والمتاحف، وفي كتابات الرحالة والمؤلفين (من أوروبيين وعرب) قبل المؤرخين الفنيين، كما سعى إلى التعرف إلى قبول اللوحة وانتشارها، ليس بين الفنانين العثمانيين والعرب الناشئين وحدهم، وإنما قبل ذلك في مجتمعات، وبين أفراد كانوا، في عهود سابقة، “كارهين” (حسب العبارة المأثورة) لوجودها، وللمعاني والقيم التي تتمثل فيها، أو تحضر معها. كيف لا، و”ظهور” اللوحة تعدى ظهور “قطعة” مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تطوى وتخفى عن الناظرين، إذ بدت لبعضهم مثل “غزو”، أو “خرق”، لمجتمعات بقيت “حصينة” (بمعنى من المعاني) طوال قرون، وذات مرجعية قيمية وجمالية تحتكم إليها دون غيرها. هكذا أتى “الدخول” بطيئا، محفوفا بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوبا أو ميسرا في نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروها في نطاق آخر، ولا سيما بين الفقهاء، أو في “علانية” المجتمع. لهذا يمكن القول أن القماشة المثبتة فوق الإطار أشبه بمرآة عريضة بين ما يطلبه أو “مالا يطلبه” من صور أطراف المجتمع، وتعرض بالتالي أحواله لجهة ما يريده أو ما لا يريده لنفسه، وعن نفسه، وهذا مدعاة لسؤال: أتكفي المسلم والعربي اللغة العربية بتعبيراتها المختلفة من دينية إلى أدبية، ولا يريد منافستها بغيرها؟ أم أن محاربة الديانة الإسلامية للوثنية في الجاهلية، المتمثلة في النصب والتماثيل والصور الفنية بقيت فاعلة وأساسا فقهيا وقيميا، بعد قرون على انتهاء العهد الوثني؟ أليست هناك فوارق بين الصورة والوثنية وهل اللوحة العربية ظهرت وفق أحكام الفقهاء أم وفق متطلبات أخرى؟ ماذا عن حضور الصورة الفنية بين الجماعات المسيحية العربية، من أيقونة وغيرها؟ أبقيت على حالها القديمة أم “تكيفت” بدورها مع مستوجبات اللوحة الزيتية؟.
هذا ما طمح الكتاب، في خطته، إلى معالجته في أبوابه الثلاثة وفصوله العشرة، هذه المسائل وغيرها، وفق منظور تاريخي تعقب الأعمال الفنية في بداياتها، وتعرف إلى فنانيها الأوائل والمؤسسين. وهو تتبع وفحص تاريخي لهما أوجه اجتماعية كذلك. ومن المعلوم أن كتابة التاريخ تُقاس بوفرة مصادره، قبل الكلام عن المنهج المناسب في درس الحراك والتجليات. هذا ما عمل عليه الباحث داغر- حسب عرضه- على مدى سنوات من خلال العودة إلى متاحف، ومجموعات فنية خاصة، ومكتبات، بين عربية وأجنبية، فضلًا عن لقاءات واسعة مع فنانين مشمولين بالدرس. هذا ما مكنه من تفقد أعمال فنية “مجهولة” أو “مغمورة”، أو على استخراج أسماء فنانين كثر (أكثر من مئة فنان) من كتابات خرجت من التداول، ما لا يجده الباحث في كتب التاريخ الفني، أو تاريخ الفنانين المعروف والمتداول في أكثر من لغة وخطاب.
أكسم طلاع