دراساتصحيفة البعث

سورية وفنزويلا.. قصة صمود وبطولة

 

ترجمة وإعداد: هيفاء علي

اعتاد الغرب على مدى عقود طويلة الهيمنة والتحكم بشعوب العالم من أجل تحقيق مصالحه فقط، فقد شن حروباً عديدة، ودمر دولاً برمتها طمعاً بمواردها ومواقعها، متذرعاً بنشر “الديمقراطية” و حماية “حقوق الإنسان”، ومستخدماً ذرائع وحججاً واهية للدخول إلى هذا البلد أو ذاك، هذا الغرب حارب ويحارب كل من لا يخضع له ويرفض إملاءاته ويتحداه ويواجهه معتمداً مقولة: “إمّا معنا أو ضدنا”، فكان هذا حال سورية وفنزويلا، وإيران والصين وروسيا، وكوبا والعراق وليبيا، ودول حرة أخرى.

وعلى الرغم من الصعوبات الشديدة التي يواجهها الشعب الفنزويلي، ورغم العقوبات والضغوطات الخارجية، إلا أن الرئيس نيكولاس مادورو فاز في الانتخابات الأخيرة، وظفر بولاية رئاسية ثانية.

ومنذ حوالي الأسبوعين، صرح السفير الفنزويلي في كينيا، خوزيه افيلا توريس، بأن “الشعب الفنزويلي يواجه اليوم الحرب نفسها التي يواجهها الشعب السوري منذ أكثر من سبعة أعوام”، صحيح أن سورية وفنزويلا تفصل بينهما مساحة جغرافية كبيرة، إلا أن المصير نفسه، والقدر نفسه يوحدهما، والشجاعة نفسها تجمعهما.

إبّان الحرب الأهلية الاسبانية، تطوع مقاتلون مناهضون للفاشية التشيكية للقتال في صفوف القوات الدولية، وقالوا آنذاك: “نحن نقاتل من أجل براغ في مدريد”، حيث وقعت مدريد بقبضة فاشيي “فرانكو” في تشرين الأول من عام 1939، فيما تم احتلال براغ قبل ذلك بعدة أشهر من قبل القوات الألمانية في آذار 1939،  العمى والجبن لدى القادة الأوروبيين، إضافة إلى الدعم الكبير الذي كانت الحشود الفاشية المجرمة تتلقاه من شعوب كل القارة الأوروبية، آلت جميعها إلى وقوع أكبر المآسي في التاريخ المعاصر، تراجيديا لم تنته إلا في 9 أيار من عام 1945 عندما تمكنت القوات السوفييتية من تحرير براغ، وإلحاق خسارة مدويّة بألمانيا النازية. فأنقذت بذلك العالم برمته.

الفاشية والنازية تعودان للواجهة

بعد مضي أكثر من سبعين عاماً، يواجه العالم كارثة بشرية أخرى بسبب هذا الغرب الذي عجز عن إنهاء عهده الإجرامي الطويل سلمياً بسبب عدم جدارته العقلية، والذي تسبب بمقتل مئات الملايين من الضحايا على مدى قرون، وها هو يهرول وينقض بجنون في كافة الاتجاهات، ويضرم نيران حروبه الشرسة مباشرة ضد دول بعيدة ككوريا الديمقراطية، الصين، روسيا، سورية، إيران، وفنزويلا.

ما يجري الآن هو الفاشية بعينها والنازية بعينها، ذلك أن العهد البربري إنما يقوم على الاحتقار العميق للشعوب غير الغربية، وعلى عقيدة يمينية محافظة تفوح منها رائحة الاستثنائية، وعلى رغبة جامحة بالسيطرة على العالم، بلدان كثيرة رفضت الخنوع والإذعان لقوة الغرب الوحشية، تواجه اليوم حملات شرسة لتحطيمها، ومن بينها: أفغانستان، ليبيا، العراق، فيما تمت في دول أخرى الإطاحة بنظام الحكم فيها عبر التدخل المباشر وغير المباشر، وكذلك عبر تزوير الانتخابات، كما حصل في أقوى دول أمريكا اللاتينية، البرازيل، ثورات عديدة، من الثورات “الملونة” و”الشعبوية”، إلى حركات “الربيع العربي”، تمت برعاية واشنطن، لندن، باريس، وعواصم غربية أخرى، ومع ذلك، استيقظ العالم ببطء، ولكن بطريقة لا رجوع فيها، ودارت رحى الحرب من أجل بقاء البشرية، سورية وفنزويلا في الخطوط الأولى لهذه المعركة، هاتان الدولتان الشجاعتان عارضتا القوة الغربية التي تريد سحقهما، ورفضتا الإذعان لها ببطولة وبالتضحيات الثمينة.

ذات يوم صرخ هوغو شافيز قائلاً: “هنا، لا أحد يستسلم”، شافيز الذي مات بعد معاناة مع مرض السرطان، ويعتقد كثيرون في أمريكا اللاتينية أن الاستخبارات الأمريكية قامت بدسه في جسمه عن طريق الحقن، رحل، مات أحد أكبر الثوريين في عصرنا هذا، إلا أن ثورته بقيت، وستواصل طريقها إلى ما لا نهاية.

حقيقة، لفهم ما يجري في سورية وفنزويلا، لابد من التحرر من العقلية الغربية المتحجرة، العقول الأنانية التي يتملكها التوجه الجنسي فقط لا يمكنها فهم ذلك، ما يجري في سورية وفنزويلا يدعو إلى فخر البشرية جمعاء، وإلى فخر الوطن، فخر حب العدالة والأحلام، إلى تنظيم أفضل للعالم أجمع، في هذين البلدين، خُدع الغرب وأخطأ حساباته، كما فعل في حالات أخرى مثل كوبا، روسيا، الصين، إيران، “كوبا ليست للبيع”، قالها الكوبيون لأمريكا وحلفائها منذ عقود.

الكسب والربح ليسا كل شيء، الإثراء الشخصي ليس كل شيء، الأنانية و”الأنا” المنتفخة ليسا كل شيء، العدالة والكرامة أكبر من تلك الأشياء بكثير، المثاليون البشريون أهم منها بكثير، والغرب لا يعرف أي معنى حقيقي للعدالة والكرامة والإنسانية.

حلب ستالين غراد المعاصرة

سورية تنزف، لكنها رفضت الاستسلام للإرهاب المصدر إليها من قبل الغرب وحلفائه وأزلامه العرب، حلب تحولت إلى ستالين غراد المعاصرة، قاومت كل الهجمات الوحشية بشجاعة، ونجحت في تغيير وجهة ميدان الحرب، وأنقذت البلاد من مخطط التقسيم الذي أراده المتآمرون عليها، الثمن كان باهظاً، لكنها انتصرت انتصاراً عظيماً.

لقد وجدت فنزويلا نفسها وحيدة ومعزولة عام 1990، كما حصل مع كوبا، وتمت شيطنتها، لكنها لم تسقط ولم تركع، الكثير من المحللين في أوروبا وأمريكا اللاتينية أجروا تحليلات “منطقية” و”عقلانية” لما يجري هناك، فهل كانت تحليلاتهم منطقية حقاً؟ وهل يعلم الغربيون ما معنى أن يكون المرء مستعمراً؟ هل يعلمون ما هي ” المعارضة الفنزويلية”؟  وهل يعرفون ديمومة الرعب الذي ينشره الغرب منذ عقود طويلة في أمريكا اللاتينية، من  جمهورية الدومينيكان وهندوراس حتى تشيلي والأرجنتين؟ الجواب بالتأكيد لا يعرفون أي شيء، أو ربما عدد قليل منهم يعرف بعض الشيء كهؤلاء الألمان الذين كانوا يعيشون قرب معسكرات الإبادة، والذين أكدوا عقب الحرب أنه لم تكن لديهم أية فكرة عما كان يجري هناك، ولا عن الدخان الذي كان يخرج من المدافئ.

الغرب أطاح بالعديد من الحكومات

عملياً، معظم دول أمريكا الوسطى والجنوبية تعرّضت حكوماتها للإطاحة على الأقل مرة من قبل الغرب، في كل مرة كانت تقرر فيها العمل باسم الشعب، على سبيل المثال، أصبحت البرازيل العام الماضي “النسخة الأخيرة” من الكوابيس، وحملات التضليل الإعلامي والانقلابات، مع تملق “النخب” المحلية للغرب، فالنقاش الطويل مع “المعارضة” في دول مثل فنزويلا، كوبا، أو بوليفيا، لا يفيد بشيء، ما يجب قوله قيل سابقاً، ما يجري ليست له أية صلة مع حلقات النقاش الأكاديمي، إنها الحرب، حرب أهلية ووحشية، المعارضة و”النخب” معروفة جيداً في دول أمريكا الجنوبية، وكذلك ” الثوريون”، وكمثال على ذلك، ثمة خطاب لابن سيناتور قوي في بوليفيا، وهو في الوقت نفسه قطب من أقطاب الصحافة: “نرفض هذه الدمية الهندية (رئيس بوليفيا ايفو موراليس)، هل يظن موراليس أن المال هو همنا وشغلنا الشاغل؟ نملك الكثير من المال، ولا يهمنا حتى لو خسرنا ملايين الدولارات، أو حتى عشرات الملايين، سوف ننشر الرعب والخوف ونزعزع الاستقرار، ونخلق العجز إذا ما أردنا ذلك، حتى الجوع، سوف ندمي هؤلاء الهنود حتى الموت”.

كل هذا الكلام يبدو “منطقياً وعقلانياً” برأي المحللين الغربيين، وضد كتابهم المقدس الرأسمالي، ولكنهم لا يعيرون أدنى درجة من اهتمامهم للعقلانية، بل لاستحواذ السلطة فقط، بينما سيعوّض أسيادهم في الشمال خسائرهم بطريقة وبأخرى، ما من وسيلة للتفاوض والجدال مع هذا النوع من البشر، إنهم خونة، لصوص ومجرمون، على مدى سنوات وعقود طويلة، استخدموا الاستراتيجية نفسها مع رهانهم على جبن ونذالة وإنسانية معارضيهم الاشتراكيين، جرّوا الحكومات التقدمية إلى جدالات لامتناهية وباطلة، ومن ثم استخدموا وسائل إعلامهم الخاصة، ووسائل الإعلام الغربية من أجل فبركة القصص عن فسادها وتشويه صورتها، وفي حال لم يحقق هذا الأسلوب غاياتهم ومآربهم، يسارعون إلى محاربتها اقتصادياً فيخنقون اقتصادياتها، ويحدثون العجوزات فيها، كما فعلوا في تشيلي قبل الانقلاب الذي أطاح ببينوشيه عام 1973، وإذا لم يكف هذا الإجراء، يستخدمون الرعب بلا رحمة ولا شفقة، وفي النهاية وكإجراء أخير، يلجؤون إلى التدخلات الغربية المباشرة، كل ذلك ليس من أجل إرساء “الديمقراطية” ولا من أجل “السوق إلخ”، كما يزعمون، بل من أجل خدمة مصالح أسيادهم الغربيين الإقطاعية، التفاوض مع هؤلاء مضيعة للوقت، والأمر أشبه بمن يلعب اللعبة بقواعده الخاصة، فخلفهم هناك كل البروباغندا الغربية والآليات المالية والعسكرية.

الصمود والمقاومة هما الخيار

الطريقة الوحيدة للبقاء هي الصمود والمقاومة، المواجهة والقتال حتى الرمق الأخير، كما فعلت كوبا منذ عقود، وكما تفعل كل من سورية وفنزويلا اليوم، إنها الطريقة الوحيدة للتقدم وبقاء الثورة والتطور، وهذا ما يجب أن يقوم به الشعب البرازيلي للقضاء على الفساد والظلم، والتخلص من المعاناة بعدما سيطرت على الحكم عصابة من الفاسدين المقربين من الغرب، بعد الإطاحة بـ “داليما”، عصابة تعمل على نهب خيرات البلاد، وتجويع الشعب البرازيلي.

فساد وسوء إدارة؟ على مدى عقود وقرون حكمت  شعوب أمريكا اللاتينية، ونهبتها عصابات فاسدة تستخدم القارة كبقرة حلوب لتعيش في رخاء الارستقراطية الغربية المقززة… كل هذه الأمور حصلت ومازالت باسم “الديمقراطية والحرية”،  باسم النفاق.

فنزويلا هنا دائماً، الشعب يجتمع حول الحكومة ويتشاطر معها المعاناة المرعبة والقاتلة من الجوع، لكنهما يتحدان ويقاومان مع إيمانهما التام أن المصالح الفردية أمر ثانوي، والأهم هو مصالح البلاد، الأيديولوجيا الاشتراكية والوطن الكبير، أمريكا الجنوبية، ما يجري ليس عقلانياً ولا منطقياً، انه أمر بديهي، حدسي ، إنساني عميق، من ليس لديهم الأيديولوجيا ولا القدرة على الالتزام لن يفهموا أي شيء، ولن يفهموا ما معنى صمود وشجاعة سورية وفنزويلا.

عودة البرازيل

ستشهد البرازيل والمكسيك، أكبر دول أمريكا اللاتينية من حيث عدد السكان، انتخابات رئاسية وشيكة ستجري في تموز المقبل في المكسيك، وفي تشرين الأول في البرازيل، وعلى أمل أن يصوت الشعبان لصالح حكومتين يساريتين جديدتين، فإن الأمور ستتغير نحو الأفضل  وستتحسن بالنسبة لفنزويلا، حتى ذلك الوقت، يتعين على كاراكاس التعويل على أصدقائها البعيدين والمقربين: الصين، إيران، روسيا، وعلى شقيقتها الشجاعة، كوبا، وكان ايفو موراليس دق ناقوس الخطر، وحذر من أن الغرب يعد العدة لانقلاب في فنزويلا، فيما يتعين  على حكومة مادورو الصمود والبقاء أشهراً قليلة لحين عودة البرازيل، وقبل أن تلحق بهم المكسيك، يجب مواجهة الغرب وفاشيته ومحاربته، ولا يجب مجاملته على الإطلاق، عند الدفاع عن البلاد، لا يمكن أن تكون الأمور منظمة وأنيقة، ولا تكون هناك “أمور مقدسة”، لأن القداسة تقود إلى الهزيمة قولاً واحداً، القديسون يلدون بعد ذلك، عندما يتحقق انتصار البلاد، لابد من دعم سورية وفنزويلا بكل الوسائل، هذان الشعبان الرائعان: السوري والفنزويلي اللذان يتعرّضان لحرب استنزاف قذرة وشرسة، يحاربان الإرهاب والغطرسة الغربية من أجل عالم لاغربي ومضطهد.

في كراكاس كما في دمشق، ثمة شعب يقاتل ويناضل ويضحي من أجل هندوراس وإيران، من أجل أفغانستان والعراق وفلسطين، ومن أجل أفريقيا الغربية، إذ لا يمكن  لجم سعار الأعداء، وإلحاق الهزيمة بهم إلا بالقوة والإيمان، وعليه لا يمكن أن تسقط سورية وفنزويلا، والتحدي اليوم كبير جداً، إنهما تحاربان الإرهاب نيابة عن العالم أجمع، تحاربان الامبريالية الغربية، ولا يتعلق الأمر فقط بـ “معارضة”، ولا حتى بعناصر خائنة في مجتمعيهما، الأمر أكبر من ذلك بكثير، إنه المستقبل وبقاء البشرية، لا شك أن ملايين الناس في كل أنحاء العالم تابعوا عن قرب الانتخابات في جمهورية بوليفيا، حيث صوت الشعب البوليفي بكثافة لصالح الرئيس مادورو الذي فاز فيها للمرة الثانية، رغم كل المحاولات الغربية اليائسة للإطاحة به، الاشتراكية هزمت الفاشية، كذلك انتصرت سورية، وأحبطت الخطة الغربية الشيطانية الرامية إلى تقسيمها، وإيصال العصابات التكفيرية المتطرفة إلى السلطة، بفضل صمود وشجاعة حكومتها، وجيشها، وشعبها، وبفضل التضحيات النفيسة التي قدمها الشعب والجيش لحماية الأرض وصونها وتطهيرها من رجس الإرهاب العالمي الذي تقوده السعودية وتركيا، وترعاه واشنطن وباريس ولندن.. الصمود والمقاومة والتضحيات تصنع المعجزات.