دراساتصحيفة البعث

مستقبل العلاقات الصينية الأمريكية

د. سليم بركات

احتفظت العلاقات الأمريكية الصينية بقدر من الاستقلال منذ سبعينيات القرن المنصرم، وبالضبط منذ “إعلان شانغهاي” الذي تضمن تأيدات واشنطن وجود دولة واحدة للصين، واعتبار تايوان جزءاً لا يتجزأ منها كوطن أمّ، الأمر الذي أدى إلى أن تكون علاقات الدولتين أكثر تحرراً، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان على خلاف عقائدي مع الصين.
أما فيما يخص الأزمة الكبرى المستعصية بين البلدين – أزمة الكوريتين – والتي تعود جذورها إلى خمسينيات القرن المنصرم، فهي تمثل واحدة من أبرز الخلافات بين الطرفين، نظراً لتزايد المخاوف الصينية من التطلعات الأمريكية الاستراتيجية في المحيط الإقليمي الصيني، وعلى مستوى القارة الآسيوية برمتها. وهي مخاوف تشكّلت في ضوء التوجهات السياسية التي تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بهدف إعادة بناء القوة والنفوذ الأمريكيين في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي. وكانت هذه التوجهات بدأت في عهد الرئيس أوباما وبلغت الذروة بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وترى فيها الصين تهديدا لمصالحها ونفوذها الإقليمي، ولاسيما العمل الأمريكي المتجه نحو توحيد شبه الجزيرة الكورية، لتصبح دولة واحدة موالية لأمريكا.
التّخوف الصيني يأتي في مكانه إذا أخذنا بالاعتبار أن الحدود الكورية الديموقراطية مع الصين تمتد على مسافة تبلغ 1400 كم تقريباً، وأن كل ما يمكن أن تتعرض له كوريا الديموقراطية سوف يجد انعكاسا مباشرا له على الصين. أما فيما يخصّ العلاقات التجارية فهي تسير بشكل مستقر رغم ما يعيقها من عقبات وصعوبات، ولقد تطورت هذه العلاقات إلى درجة أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر شريك تجاري للصين بحسب إحصائيات الطرف الأمريكي.
ورغم هذه الشراكة فإن الخلافات في هذا المجال قد برزت وبوجوه متعددة، منها أن السياسة النقدية الصينية تعاني انخفاض عملتها المحلية نتيجة هذه الشراكة، والحالة هذه تحتاج إلى معالجة الخلل في الميزان التجاري بين البلدين، ومنها سياسة الحماية التجارية الأمريكية المتّبعة ضد الواردات من الصين، والتي تفتقر إلى التعامل بالمثل. ومنها القرصنة الفكرية التي تمارسها الشركات الصينية، وهي ذات أصل أمريكي، والمنسوخة عن برامج الكمبيوتر والأعمال الفنية المرئية والمسموعة على الرغم من اتفاق البلدين بشأن مكافحة القرصنة.
من جملة الملفات المختلف عليها بين الصين وأمريكا الملفّ التايواني، والذي يعدّ أهم المحاور خلافا بسبب إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على نوعية جديدة من التعامل مع حكومة تايوان عدّته الصين خرقا للاتفاق بين البلدين وتكريسا للانفصال التايواني من خلال العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الأمريكية التايوانية في مختلف المجالات، ومنها المتغيرات المناخية ومكافحة الاحتباس الحراري الناتج عن عمليات التصنيع، والذي يجب أن تتحمل الدول المتقدمة أعباءه من وجهة النظر الصينية، ومنها النمو الاقتصادي الصيني المتسارع، والذي يهدد النفوذ الأمريكي على الساحة العالمية، وتحاول أمريكا منذ زمن بعيد احتواءه وتطويعه بحسب مصالحها، ومنها عدم وجود الثقة المتبادلة بين البلدين، بعد الصعود العسكري والاستراتيجي للصين، صعود عظّم من الخطر الذي يمكن أن تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في آسيا، وفي أيّ معركة عسكرية محتملة وباهظة التكاليف.
الأمر الذي يعزّز من مركز الصين التفاوضي في أيّ صراع دولي قادم. ولاسيما في العمليات القتالية التقليدية، وتكنولوجيا الفضاء، وما يترتب على ذلك من تغيير في موازين القوى الإقليمية، ومنها المكانة الإقليمية المتزايدة للصين على الصعيد العالمي، والتي تنافس مكانة الولايات المتحدة الأمريكية المنفردة في هذه المكانة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وهل نبالغ إذا قلنا أنّ شكل العلاقات الصينية الأمريكية لن يبقى كما هو عليه خلال المرحلة القادمة، وخاصة في مجال تنامي القدرات الصينية التي سوف تحدد ملامح النظام العالمي الجديد.
أما فيما يخصّ أزمات المنطقة وفي طليعتها الأزمة السورية، فقد تحولت إلى محور جديد للخلافات بعد أن حدّدت الصين مواقفها الدولية ونمط تصويتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن في موقع القرب من القضايا العربية، وعلى تناقض مع السياسة الخارجية الأمريكية المؤيدة دائما لإسرائيل. ولقد ظهر هذا التناقض واضحا من خلال التعامل مع الأزمة السورية، حيث عرقلت الصين إلى جانب روسيا أي قرار يمس سيادة سورية، وشرعية نظامها، كما عارضت فرض أية عقوبات فاعلة ضدها.
في ضوء ما تقدم يمكن تصور مسارين لا ثالث لهما في مجال العلاقات الأمريكية الصينية، الأول مسار التقارب والتعاون، والثاني مسار الصراع والخلاف. الأول يفعّل الحوار بين البلدين لترسيخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين، معتمدا الدبلوماسية لحل القضايا المعلقة، وهذا ما يعزز السلام والاستقرار في منطقة شرق آسيا، فضلا عن أنه يفتح المجال لحلّ المشاكل العالمية كالبيئة والمخدرات والتهريب والهجرة، والطاقة ومكافحة الإرهاب وغير ذلك، والثاني مسار الصراع والخلاف، وهذا هو المرجح نحو المزيد من التوترات والاحتكاكات في ظلّ رغبة الصين في التحول إلى قوّة عظمى، الأمر الذي تنظر إليه الولايات المتحدة الأمريكية على أنه مصدر التهديد الرئيسي للأمن القومي الأمريكي وللمكانة الأمريكية في النظام الدولي، وخاصة في ظلّ القلق الأمريكي من دخول الصين في تحالفات مناهضة لأمريكا ولاسيما مع روسيا، هذا القلق الذي تزايد بعد وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى الرئاسة.
بقي أن نقول أن العلاقات الأمريكية الصينية تمثّل نمطا فريدا على مستوى العلاقات الدولية، كونها مختلفة، وفي الوقت ذاته لن تصل إلى درجة الخلاف، بلّ قد تبقى متنافرة تتأرجح بين التعاون والصراع، دون الاستمرار على وتيرة واحدة، الأمر الذي يرجح أن تبقى هذه العلاقة بين الصين وأمريكا في حالة توازن، رغم افتقادها إلى الثقة المتبادلة بسبب مزاجية الرئيس ترامب، وذلك لكي تضمن العيّش والتكيّف مع النظام الدولي المتشابك والمعقد.