المؤسسات العميقة!
لم تعد جائحة المؤسسات العميقة محصورة بقطاع أو اختصاص معين، بل باتت عامة، حيث من الصعب اليوم التفريق بين عمل أي وزارة أو مؤسسة من ناحية أدائها المتهاوي في شبكة معقدة متداخلة بين الأسباب والنتائج والمبررات ؛ وذلك نظراً لاجتماعها على هدف واحد يتمثل بإدخال مسؤولياتها الفعلية في دائرة التسويف والتأجيل وإبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة التي لا تخدم سوى القائمين عليها حتى لو كان ذلك يضر بمصلحة المواطن ويقصي حياته المعيشية عن سكة التعافي والانتعاش الحياتي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
وما يدعو للقلق أكثر أن صناعة القرار في المؤسسات لم تعد تحت عباءة المسؤولية والواجب، بل دخلت في نفق مظلم من العلاقات المشبوهة حيث تكشف الوقائع أنها تحت سيطرة شبكات تمتلك مفاتيح الصناديق السوداء في المفاصل الرئيسية وهي قادرة على فرض توجهاتها وأهدافها لتحقق المزيد من المكاسب حتى لو تعارض ذلك مع خارطة التوجهات العامة التي وضعت لخدمة المصلحة الوطنية، ولنكون أكثر قرباً من الحقائق لابد من التأكيد على أن المنظومة المؤسساتية باتت أكثر ضعفاً وانحرافاً عن مسارها الصحيح، حيث بات هناك مؤسسات بإدارات هزيلة ووراءها تقف منظومة دوائر القرار الفعلي التي ترتشف العائدات وتترنح شبعاً، ونستذكر بعضاً من الشواهد، فعلى سبيل المثال فاتورة إفشال سياسة ترشيد الاستيراد كانت كبيرة جداً من حيث انعكاساتها على حياة الناس ولجهة أرباحها المحققة لصالح من استثمر الظرف وتلاعب ببوصلة التوجهات الحقيقية.
وبالتدقيق في حيثيات ملف الرواتب والأجور وعدم البت فيه، نجد أن بين أيدينا مثالاً واضحاً على أدوات عمل المؤسسات العميقة المستخدمة للمحافظة على شبكات المصالح بداخلها والمتمثلة باستغلال الظروف الاستثنائية لتعميم استراتيجية القرار الاستثنائي خارج إطار القانون حيث يتم اتخاذ العديد من الإجراءات بدعوى معالجة الوضع المستجد والطارئ بشكل مغاير للمطلوب أو من خلال اختلاق الأعذار والمبررات لتأجيل البت في مثل هذا الملف الهام والضروري كربط الأجور بالإنتاجية رغم استحالة تحقيق هذه المعادلة في الوقت الراهن، وبذلك تنجح عملية الاستبعاد الممنهجة والمقوننة لانتقادات ومطالبات الأكثرية التي لا تشعر بالرضا عن أداء تلك المؤسسات.
وطبعاً إثبات توغل المؤسسات العميقة في مخالفاتها للقانون ليس بالأمر الصعب أو المستحيل، فالعودة إلى مواد الدستور تكشف فداحة ما ترتكبه من استثمار للأوضاع والأحداث لصالحها، فهي تتجاهل نص المادة الثالثة عشرة من الدستور لجهة أن الاقتصاد الوطني يقوم على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشـة الفرد وتوفير فرص العمل عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، كما أكدت المادة الأربعون منه على حق العامل في أجرٍ عادلٍ وعلى ألّا يقل هذا الأجر عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات المعيشة، ولكن يبدو أن الشيء المتبع في السياسة الاقتصادية يتجه في الاتجاه الآخر سواء في السنوات الماضية أو حالياً، مع تغير الظروف نحو الأفضل.
خلاصة القول هي أننا أمام تكتل وشبكة معقدة من العلاقات والمصالح المتداخلة ضمن منظومة عمل المؤسسات العميقة التي لم تقدم إلى الآن سوى الوعود الجوفاء التي تلفح المواطن بخيبات أمل متتالية ليس على الصعيد المعيشي فقط بل على جميع الأصعدة، وبالتالي الحاجة متزايدة لفكفكة منظومة عمل هذه المؤسسات العاملة على كسب الوقت فقط دون أية نتائج على أرض الواقع بحيث تبقى الاستراتيجيات والسياسات التي تضعها على الورق بينما تستبعد وتختزل القرارات وتحصد الثروات.
بشير فرزان