الأستاذ الناقد.. “ريموت كنترول”
لا تقرأ في الجرائد المنوعة ولا تشاهد على العديد من الفضائيات العربية، إلا مسلسل “كذا” هو الأكثر شعبية بين باقي أعمال الموسم الدرامي الذي انقضى، وبعدها تسمع عن إحصاء، أن مسلسلا آخر، هو الأكثر مشاهدة، ثم يتم القفز إلى مسلسل ثالث، ويقولون بل هذا الأكثر مشاهدة، وفي كل مرة يعتمدون على استطلاعات، وقياسات رأي لا نعلم من يقوم بها، ومدى مصداقيتها، وهل هي حقيقية أساسا أم أنها وهمية؟.
هذا يقول لك مؤسسة استطلاع رأي، -يكتب اسمها بثلاثة أو أربعة أحرف أجنبية-، هي من قامت بهذا الإحصاء ويجب عليك أن تصدقه، ومنهم من يستند على استطلاعات تقوم بها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو صحف الكترونية غير معروفة، وأحيانا معروفة، ولكن من غير المعروف إن كانت نزيهة.
تسمع من أفراد أسرتك، وزملائك في العمل، المتخصصين منهم بالدراما والشؤون الثقافية، وغير المتخصصين، أصحاب الشهادات العليا وأصحاب المهن الحرفية، من البائع والخبّاز وعامل محطة البنزين، ومن كل الناس، أن مسلسلا ما لا يستحق المشاهدة، ويخبرك صاحب محل للألبان أنه لا يشاهد نفس العمل، مقدما لك عدة أسباب نقدية، بعضها أهم مما تقرأه عند بعض النقاد لأنه طازج وحقيقي، ومع كل ما سبق؛ سوف تجد ذاك العمل الدرامي التلفزيوني أو غيره، هو الأكثر شعبية ومشاهدة، وفق استطلاعات من فئة: شهادة الزور.
هكذا إذا يقرر صاحب شركة إنتاج ما، أن مسلسلهم هو الأفضل لهذا الموسم، والاستطلاعات تحت الطلب، والنقاد في مرمى التكسب، فتسمع وتقرأ كلاما في مديح العمل، يعجز عنه شعراء البلاط في العصور الخوالي.
تبدأ المسألة كالتالي: يقوم أصدقاء المخرج أو الكاتب، بتدبيج “البوستات” في مديحه، ثم يقوم صحفي ما “بخرطه” مقالا ترتج له حيطان “الفيس بوك” حيث يقوم الناس بمشاركته، وعندها تظهر نتائج استطلاعات، لا تقلُّ فروسية ورشاقة؛ كجلمود صخر حطه السيف من علي. ولكن أين حطّ السيل ذلك الجلمود؟ هم فقط من يقرأ مديحهم لأنفسهم؛ الجمهور لا تنطلي عليه لا تلك الاستطلاعات ولا تلك المشورات، فما الحل عندها؟
يقفزون إلى التلفزيون نفسه الذي يعرض أعمالهم، ليخبرونا عن الاستطلاعات والمقالات، تلك التي تثبت جودة بضاعتهم، فيشعر الجمهور أنه لا يستطيع معرفة جيد الأعمال من رديئها، ولكنه بعد أن يرى نفسه يتابع أعمالا محددة دون غيرها، لأن ذائقته لا تخونه، عندها يعرف أنه يعيش في عالم مليء بأشخاص لا يعترفون بأخطائهم، فهم يخطئون مرتين، مرة عندما يصنعون عملا غير ناجح، ومرة عندما يحاولون إقناع الناس بأنه عمل جيد وناجح.
ومن كان لديه شكّ في جودة المسلسل، فهذه جريدة أجنبية معجبة به، لذا اصمتوا ولا تتكلموا “إذا الأجانب عجبُن”، أو قد يتفاقم الوضع، ويطلبون من محطة تلفزيونية غربية، أن تربت على أكتافهم، ويعجبها المسلسل؛ وكأن هذه المسلسلات لجودتها لا تنفك تُعرض في بلاد الغال والأسبان والانكليز، فلماذا لا تعجبكم أنتم أيها الجمهور؟.
بالتأكيد لا يمكن لوم مؤسسات استطلاع الرأي سواء كانت حقيقية أم وهمية، فهؤلاء هدفهم الربح، وهذا مفهوم، فهي ليست جمعيات خيرية، ولكن من يقع اللوم عليهم، هم كتّاب صحافة “بلاط الشركات”، الذين –إلا قليلا منهم-يكتبون في الجرائد ما لا يشاهدونه في التلفزيون.
هذا الاستبداد الدرامي، القائم على موضوعات غريبة عن ثقافتنا، ومليئة بالعنف والجريمة، وبترويج أنماط سلوكية غير مقبولة، عدا عن كونها تعاني من الركاكة الفنية على مستوى النص والإخراج، يقوم على “عصي” غليظة عديدة؛ استطلاع الرأي المزيف، المقال النقدي المزيف، إطراء الصحف الأجنبية، تلك التي إعجابها بحد ذاته مشكلة، فلماذا تعجب تلك الأعمال الصحف الأجنبية؟.
ولكن لحسن الحظ، أن هذا الجمهور، في زمن القنوات المفتوحة، بات لديه في يده، ناقد لا يعرف المجاملة، وهو الأستاذ “ريموت كونترول”، كبسة زر ويتعرض أي عمل رديء للإعدام دون أن تأخذه رأفة باستطلاع رأي، أو تستعطفه شفقة لجريدة أجنبية، ويتحول المتفرج وبسهولة إلى متابعة مسلسل آخر.
الأحداث غير المنطقية، لا ينفع معها استطلاع رأي، والحوار الضعيف لن تنقذه صحيفة أجنبية، وذلك الممثل أو تلك الممثلة، ممن دخل أحدهم إلى المسلسل بالواسطة أو بغيرها، لن يبرر أي مقال سبب وجوده.
هذه –الشموليّة الدراميّة-، ذات الملامح الليبرالية، لا تصمد أمام رأي الأستاذ “ريموت كنترول” أبدا.
تمّام علي بركات