دراساتصحيفة البعث

الحماية القانونية للممتلكات الثقافية

د. هالة الأسعد

باحثة في العلوم السياسية

وضعت القانونية الخاصة للممتلكات الثقافية بهدف حمايتها من أعمال الدمار المتعمدة، لأن تدمير الآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية “يقصد” للقضاء على هوية الخصم وتاريخه وثقافته وإيمانه، بغية محو كل أثر لوجوده، وإنهاء لهويته وتاريخه وحضارته، وبالتالي تحطيم مستقبله.

سابقاً دمرت مدن قرطاجة، ومدينة ” وارسو ” في نهاية الحرب العالمية الثانية،  ولم ينج لا أثر تذكاري ولا كنيسة ولا مبنى، وهناك الكثير من الأمثلة أيضاً، منها تدمير تمثالي “بوذا” في ” باميان ” في عام 2001، وفي كل حالة من هذه الحالات لم تكن الآثار التذكارية وحدها المقصودة، وإنما أيضاً وبالذات الضمير الجماعي للشعوب، من هنا فإن التدمير المتعمد للآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية هو مظهر من مظاهر التحول إلى مستنقع الحرب الشاملة، وهو يمثل الوجه الآخر للإبادة الجماعية، ولكن يتبيّن لنا من التاريخ أيضاً أن هناك تدابير اتخذت منذ الحقب الغابرة لضمان عدم الاعتداء على أماكن العبادة والأعمال الفنية، هكذا، وفي بلاد الإغريق القديمة كان يعترف بالمعابد الإغريقية الكبرى مثل: “الأولمبي” و”ديلوس” و” ديلفيس” و” دودون” بوصفها مقدسة، ولا ينبغي الاعتداء على حرمتها، فكان من المحرم ارتكاب أعمال عنف بداخلها، كما كان يجوز للأعداء المهزومين أن يلجؤوا إليها طلباً للملاذ، ومن هنا نشأ قانون اللجوء الذي اعتمد اليوم، وفي أوروبا خلال القرون الوسطى كانت قواعد الفروسية تحمي الكنائس والأديرة، كما أن الإسلام يتضمن الكثير من المبادئ التي تحمي أماكن العبادة، كما أنه في حالة الحرب بين شعوب تنتمي إلى ثقافات مختلفة، غالباً لم يكن يعترف بهذه القواعد، ولا يخفى على أحد حجم الدمار الذي خلّفته الحروب الصليبية والحروب الدينية.

إن الاهتمام وتبني قواعد تحمي الممتلكات الثقافية في حالة الحرب ليست وليدة حقبة حديثة العهد، حيث تم ذلك من خلال المبدأ الأساسي القائل بالتمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية، ويرجع الفضل في ذلك إلى  جان جاك روسو الذي كان له السبق في طرح مبدأ هذا التمييز بوضوح، إذ قال: “إن الحرب ليست علاقة بين شخص وآخر، وإنما بين دولة وأخرى، يكون فيها الأفراد أعداء بالصدفة، ليس كأشخاص أو مواطنين وإنما كجنود، ليس كأفراد الوطن، وإنما كمدافعين عنه”، ومن هنا فإن مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والممتلكات المدنية يشمل جميع قوانين الحرب وأعرافها، لاسيما القواعد المتعلقة بسير العمليات العدائية.

وفي المجلة العامة للقانون الدولي العام، المجلد 30، 1923، الوثائق، صـ1-9.1923، التي اعتمدتها لجنة القانونيين الذين فوضهم مؤتمر الحد من التسلح، لم يصادق أحد على هذه القواعد للأسف، تم التأكيد مجدداً على القواعد التي تنظم سير العمليات الحربية وحماية الأشخاص والممتلكات المدنية من آثار هذه العمليات، ثم طورت هذه اللجنة قواعد باعتماد البروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف في 8 حزيران عام 1977 المواد 35-67 من البروتوكول الأول، والمواد 13-17 من البروتوكول الثاني، وكان من المسلّم به عموماً أن معظم الأحكام الواردة في البروتوكول الأول الإضافي لإتفاقيات جنيف المتعلقة بسير العمليات العسكرية تعبّر عن قواعد عرفية تنطبق بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانوا ملتزمين بهذا البروتوكول أو لا، ومن المسلّم به أيضاً أن هذه القواعد تسري على جميع النزاعات المسلحة سواء الدولية أو غير الدولية.

وباعتبار الممتلكات الثقافية بصفتها ممتلكات مدنية محمية بموجب جميع هذه الأحكام بوضوح، ويحظر استخدامها لأغراض عسكرية، فإنه يحظر مهاجمتها عن قصد، وينبغي توخي الحيطة أثناء الهجوم والدفاع لتفادي تعريضها للخطر، كما يحظر نهبها.

هذه الحماية العامة التي تسري على جميع الممتلكات المدنية لا تكفي اليوم لضمان حماية الممتلكات الثقافية التي هي جزء من تراث البشرية، وبحكم طبيعتها الخاصة، وما تمثله بالنسبة للإنسانية، فقد تقرر منحها حماية خاصة.

وكان “ايمير دي فاتيل” هو من طرح في القرن الثامن عشر أول مبدأ لاحترام المقدسات والقبور والأبنية الثقافية الأخرى، وبالفعل جاء في معاهدته الكبرى بعنوان “قانون الشعوب أو مبادئ القانون الطبيعي المنطبقة على الحكم وشؤون الدول والملوك” ما يلي:

“مهما كان السبب في تخريب بلد ما يجب عدم الاعتداء على معالم العمارة التي هي شرف الإنسانية، والتي لا تساهم قط في جعل العدو أكثر قوة: المعابد والقبور والمباني العمومية وجميع الأعمال التي تحظى بالاحترام بجمالها، فماذا نجني من تدميرها؟ إذ يغدو عدواً للبشرية ذلك الشخص الذي يحرمها بطيبة خاطر من هذه الآثار الفنية، وهذه النماذج من الذوق”.

وفي نهاية الحروب النابليونية، طالب الحلفاء بإعادة عدد لا يحصى من الأعمال الفنية التي نهبتها جيوش نابليون أثناء غزوها لمختلف البلدان، وبذلك أُقر مبدأ حصانة الأعمال الفنية من المصادرة والنهب.

والمادة 17 من إعلان بروكسل في 27 /آب 1874 على أنه في حالة قصف مدينة أو مكان محصن أو قرية يجري الدفاع عنها، يجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة لعدم الاعتداء قدر الإمكان على الأماكن المخصصة للعبادة والفنون والعلوم، و”حماية الممتلكات الثقافية”، كما طرحت اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية في 18 /تشرين الأول 1907 مبدأ حصانة الممتلكات الثقافية، حتى في حالة الحصار أو القصف:

“في حالات الحصار أو القصف يجب اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتفادي الهجوم، قدر المستطاع، على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التي يتم فيها جمع المرضى والجرحى، شريطة ألا تستخدم في الظروف السائدة آنذاك لأغراض عسكرية”.

وفي الأراضي المحتلة، تحرم الاتفاقية كل حجز أو تدمير أو إتلاف مقصود للمؤسسات المخصصة للعبادة والأعمال الخيرية والتعليم والفنون والعلوم حتى وإن كانت ملكاً للدولة، إلا أن هذه الأحكام لم تمنع للأسف الكثير من أعمال التدمير التي تعرّضت لها الممتلكات الثقافية أثناء الحرب العالمية الأولى، وعلى نطاق أوسع بكثير في الحرب العالمية الثانية، ولاحقاً رأت الدول أنه من الضروري اعتماد اتفاقية خاصة لحماية الممتلكات الثقافية، ومن هنا جاءت نشأة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح في 14 أيار 1954.

أخيراً، وحيث إن جميع الدول ليست ملتزمة بهذه الاتفاقية، فقد أدرج المؤتمر الدبلوماسي حول إعادة تأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني الذي يطبق على النزاعات المسلحة الذي عقد في جنيف من عام 1974 إلى عام 1977، في البروتوكولين الإضافيين مادة تتعلق بحماية الممتلكات الثقافية، وفيما يلي نص المادة 53 من البروتوكول الأول:

تحظر الأعمال التالية، وذلك دون الإخلال بأحكام اتفاقية لاهاي المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح المبرمة في 14 أيار 1954 وأحكام المواثيق الدولية الأخرى الخاصة بالموضوع:

– ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكّل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب.

– استخدام مثل هذه الممتلكات في دعم المجهود الحربي.

– اتخاذ مثل هذه الممتلكات محلاً للهجمات الانتقامية.

لا تشير هذه المادة إلى حظر نهب الممتلكات الثقافية، وليس في ذلك مفاجأة، الواقع أن البروتوكول الإضافي يكمل اتفاقيات جنيف، إلا أن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص بالفعل على حظر النهب، وينطبق هذا الحكم على جميع الممتلكات المدنية، بما فيها الممتلكات الثقافية.

وتنص المادة 16 من البروتوكول الثاني أيضاً على حظر ارتكاب أي عمل عدائي موجه ضد الممتلكات الثقافية، واستخدامها لدعم المجهود الحربي، ومن المسلّم به عموماً أن هذه الأحكام تعكس القانون العرفي، وأنها واجبة بهذه الصفة على جميع المتحاربين سواء كانوا ملتزمين بالبروتوكولين الإضافيين أو لا.

أخيراً، يعرف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في تموز 1998 جرائم الحرب كما يلي:

“… تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية والآثار التاريخية  شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية”، إذ يشمل نظام المحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما يوم 17 تموز 1998، المادة 8،2 ب، و8، 2، حظر الأعمال المرتكبة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

ولعل عرض القوانين الرئيسية المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وما يخص أسس الحماية، جميعها تنص على أنه تخضع الممتلكات الثقافية للحماية من جهة بحكم طابعها المدني، ومن جهة أخرى باعتبارها جزءاً من التراث الثقافي أو الروحي للشعوب، ما يعني أنها تحظى بحماية مزدوجة:

1- فهي محمية من جهة بصفتها ممتلكات مدنية، وتسري عليها جميع الأحكام المتعلقة بحماية الممتلكات أو الأهداف المدنية.

2- ومن جهة أخرى تخضع لحماية خاصة بموجب الأحكام المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.

وفيما يتعلق بمصادر نظام الحماية فإن المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني تبقيان صراحة على أحكام اتفاقية لاهاي المؤرخة في 14 أيار 1954، وبناء عليه ليس هناك أي تناقض، وإنما هناك تكامل بين أحكام البروتوكولين وأحكام اتفاقية لاهاي.

وبالمبدأ فإنه يتعين احترام الممتلكات الثقافية وحمايتها كجزء من التراث المشترك للإنسانية بغض النظر عن الثقافة التي تنتمي إليها، كما أن حماية هذه الممتلكات تسمو على الاختلافات الثقافية أو الوطنية أو الدينية، “إن الأطراف السامية المتعاقدة لاعتقادها أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب كانت تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافة العالمية”، هكذا أعلنت ديباجة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، 14 أيار 1954، لكن هل حماية الممتلكات الثقافية جزء من القانون الدولي الإنساني؟.. الواقع أن تدمير الممتلكات الثقافية لا يستهدف فقط الممتلكات المقصودة، والحقيقة أن تدمير الممتلكات الثقافية يهدف دائماً إلى تدمير الأشخاص المعرّضين للهجوم، فالممتلكات وحدها لا تجتذب العمل العدائي.

وحماية الممتلكات الثقافية ليس المقصود منها هو حماية الآثار أو الأشياء المراد حمايتها فحسب، وإنما حماية ذاكرة الشعوب وضميرها الجماعي وهويتها، وهي  ذاكرة وضمير وهوية كل فرد، وهذا لا يخرج عن إطار الأسرة أو الشكل الاجتماعي الذي ننتمي إليه، وهذه الأحكام هي جزء من القانون الدولي الإنساني، واتفاقية عام 1954، واتفاقيات جنيف لعام 1949، مما لا يدع مجالاً للشك في تقاربها، وأخيراً فإن الالتزامات الأساسية لاتفاقية 1954 واردة في المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني، كما أن اتفاقية عام 1954 تسند مسؤولية تنفيذ أحكامها إلى القوى الحامية المكلفة بحماية مصالح أطراف النزاع، وإلى منظمة اليونسكو  المواد 21، 22 و23 من اتفاقية عام 1954، فالاتفاقية لا تعهد بأي تفويض خاص إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر للسهر على احترام أحكامها، وأنه يتعين على اللجنة الدولية الإشراف على احترام المادة 53 من البروتوكول الأول والمادة 16 من البروتوكول الثاني، كما يجب عليها السهر على احترام أية أحكام أخرى واردة في اتفاقيات جنيف أو البروتوكولين الإضافيين إليها.

بل وأبعد من ذلك، فإن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر برمتها هي المعنية بحماية الممتلكات الثقافية لأنها معنية بكل ما يتعلق بحماية ضحايا الحرب، ولهذا السبب اعتمد مجلس المندوبين عام 2001 قراراً هاماً حول هذا الموضوع، مجلس المندوبين، جنيف، 11-14 تشرين الثاني 2002، “حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح”.

ومن هنا نستطيع تحديد حجم الجريمة المرتكبة على الأوابد والممتلكات الثقافية والدينية، والأبشع ما تم فيه من جريمة بشعة بنبش القبور، وهنا يختلف الموضوع قليلاً، حيث إن الإرهابي يحاسب على أنه إرهابي هذا أولاً، لكن الممول والمتدخل والداعم المعنوي أو بالمال أو بالتسهيل لارتكاب الجريمة يحاسب كمحاسبة الفاعل أو مرتكب الجريمة سواء كان فرداً أو دولة أو منظمة، وإن التغاضي عن المحاسبة يعني جريمة أخرى تضاف إلى هذا الكم الكبير من الجرائم المرتكبة، وهنا يكون ما سمي المجتمع الدولي تحت امتحان كبير في أن يكون أو لا يكون.

وما جرى على بلادنا في كل الساحات يصنف تحت عنوان: جريمة الحرب، وانتهاك للقانون الدولي الإنساني، فهل ما يرتكب على الغرب يعتبر جريمة، وما يرتكب على بلادنا لا يقع تحت عنوان ارتكاب الجرائم، وهو تحديداً يخضع للقوانين التي وضعوها هم، والمفروض أن تصلح للمحاسبة في كل زمان ومكان.