الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نصر في مرمى القصف!؟

د. نهلة عيسى

مدينة بعد أخرى, وقرية تلو قرية, الوطن يتحرر, ولكنني رغم ذلك, أقف مغسولة بالدم والرعب, وقلبي مغارة تتوق لشمس السلام والمحبة, وفي حلقي صرخة المذبوح: أوقفوا أصوات المدافع والدمار الكلامية, وأنا أتابع سجال السجال المنعقد على صفحات التواصل الاجتماعي, والذي يضيف كل يوم عشرات الأوجاع  والتارات إلى كوم أشلاء الوطن, لأن ظاهر الوقائع يوحي بأن بعض أصحاب القرار في مؤسساتنا, تحت دعوى المواءمة الوطنية, اختاروا الاصطفاف إلى جانب أعلانا صوتاً, وأكثرنا منابر, وأقوانا حجة عند البسطاء والعامة!.

وهو اصطفاف (إن كان صحيحاً) أفهم دوافعه ودواعيه, إلا أني لا أحبذه, أولاً: لأنه يزج “دون قصد” بمؤسسات الدولة السيادية, في خصومة “مزعومة” ليست طرفاً فيها, لأنها مؤسسات تمثل جميع المواطنين على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم, وهي (أي هذه المؤسسات) واجبها أن تقدر كل من ساهم ولو بدعاء في رتق جروح الوطن, وفي مسح الرماد عن جبينه, وفي لملمة فوارغ الرصاص عن أرصفته, وثانياً: لأن السجال, وأرجو أن يتحول قريباً إلى حوار, حتى في شططه, هو دليل عافية وصحة وطنية, شرط ألا ينتقص من دور أحد, وأن لا يشكك في وطنية أي  مجموعة, أو تيار فكري أو ديني أو سياسي.

لذلك, إذا كنا نريد أن ينبت للوطن جناحان ليحلق بهما خارج دائرة الموت, وشراك الغدر, يجب أن نعترف أننا جميعاً مدانون, وأن هذه الحرب نتاج أفعالنا, عامدين أو غير عامدين, وأن كل من خاضوا الحرب في صف الوطن, عسكريين ومدنيين, سياسيين ورجال دين, وعلمانيين, ومواطنين عاديين, هم في جبهة واحدة, وما بينهم من فوارق, هي اختلافات في الرأي والدور والمسؤولية, ولا يجب أن تكون خلافات تعيد قرع طبول الحرب, ولعب مباريات التنس بالقنابل اليدوية, وتحول النصر إلى هشيم تذروه رياح سجال: من فينا على صواب!؟

أقف رغم النصر, مغسولة بالرعب, لأنني بت أخاف أننا نحول الحرب إلى دفتر شيكات نطالب الوطن فيها بالدفع الفوري, وإلا…! متناسين أن الأوطان حدائق, فيها الشجر والورد والشوك والصبار, وفيها كل أنواع الطيور, بداية من الكنار ونهاية بالغراب, وكلهم يحتاج الآخر في تحديد ملامحه وهويته وتفرده, وهو الأمر الذي يستلزم منا رفع الأقنعة ومسح المكياج عن وجوه جميع الساعين لتحويل الوطن إلى آلة ناسخة لفكر واحد, أو حزب واحد, أو دين أو مذهب واحد, لأن هؤلاء يسرقون الأمل من قلوبنا, والأغنية من حناجرنا, والعفوية من انتمائنا, ويسعون لتغريبنا يوماً بعد يوم, لدرجة الإحساس أننا  مجرد هوامش, وعراة وسط حشد من العيون الكارهة الشامتة!.

كما يستلزم مقاومة ذبحنا كل ثانية, عبر إقناعنا أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان, رغم أن حربنا الحقيقية لم تبدأ بعد, والطريق ما يزال أمامنا طويل, والوطنية الحقة لاتعني ستر السماء بالعماء, لأن الوطن ليس خطاباً, ولا تربية عصافير وتنسيق ورود في برامج الصباح, ولا رحلة لرش الموت بالسكر, على ضفاف بحيرات النسيان والوهم, وتقزيم الخصوم وتعليق مشانقهم (لفظياً) على شاشات التلفزة الوطنية, بحجة رفع المعنويات وتحفيز الأمل, وتصبير الصابرين العارفين, أن الإعدام اللفظي للإرهاب, لا يعدم وجوده ولا ينفيه, وأن الخلاف بين مكونات المدافعين عن الوطن, هو الإرهاب الأخطر!. خاصة, أن ترداد الحديث بحماس وببغائية يقينية, مثيرة للحنق عن النصر الكامل, لا يمكن أن تجعله ممكناً, ما لم يترافق هذا الحماس (على عواره) مع حرب في الداخل, لقطع أيادي أخطبوط الفساد والفاسدين في كل زاوية وركن من زاويا وأركان الوطن, مع محاسبة وعقاب كل من تلطخت أيديهم بدماء عقولنا, وطعامنا, وشرابنا, وصحتنا, وتعليمنا, وثرواتنا الوطنية, وكرامتنا, كحساب من تلطخت أيديهم بدمائنا, ودماء الوطن, وكرامته, وسلامته, ووحدة شعبه وأرضه, وإلا فإن ليل الحاضر لن يسفر عن فجر, وسيصبح النصر في مرمى القصف!.